في أحوال الدولة العربية
... إذن، ليس صحيحا أن دولة المواطنة العربية لم تُنجَز تماما بعد، وإنما الصحيح أن الدولة العربية نفسَها لم تُنجَز تماما بعد، بالقياس إلى مفهوم الدولة الذي يلتفت إلى وظائفها وأدوارها ومساحات مركّباتها المؤسّساتية والمجتمعية فيها. ... هذه خلاصةٌ يمكن لمعلقٍ متعجّلٍ أن يصل إليها، بعد متابعته، ما وسعَه الجهد (وطول البال أيضا)، 31 ورقة بحثية، متنوعة في موضوعة الدولة العربية، جاء كثيرٌ منها على نماذج متعدّدة مشرقا ومغربا، استعرَضها كتّابها ومعدّوها، في 15 جلسة في خمسة أيام، في مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية، الذي نظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الأسبوع الماضي دورته الثامنة، بعنوان "الدولة العربية المعاصرة .. التصور، النشأة، الأزمة". وإذ يتنكّب المركز، في أنشطته وإصداراته وأوراشه، منذ انطلاقته قبل عشر سنوات، التفكير في قضايا راهن العرب الموصول بماضيهم، وعلاقات الجوار والعالم بهم، فإنه في فعاليته هذه يبسُط قضية الدولة العربية للسؤال والنقاش والبحث، وللحفر العلمي والأكاديمي، وأيضا لاختبار مطابقات المفاهيم والتصوّرات على حال هذه الدولة. وهو في هذا يستشعر أن النخبة العربية، المثقفة والمتعلمة، تظلّ في حاجةٍ دائمةٍ إلى تقليب إجاباتها عن السؤال المركزي، الجوهري، المُقلق والمحرج، عما إذا كانت الدولة المتحدّث عنها أوفت، أولا بالشروط النظرية لمفهوم الدولة نفسه. وتاليا، ما إذا أوفت بما تُمليه عليها موجات الحداثة المتتابعة، بشأن قضايا الحكم والتسيير ومنظومات المجتمع .. إلخ.
كان مفيدا أن نسمع (عبر "زووم") مداخلات الأساتذة والباحثين والخبراء في شؤون متنوّعة متصلة بالمساحات الواسعة التي يتيحها عنوان المؤتمر، بعد الإنصات إلى محاضرة عزمي بشارة الافتتاحية، والتي طافت على مفاهيم تأسيسية بشأن الدولة والأمة ونظام الحكم، بما بينها من تداخلاتٍ وتقاطعاتٍ ومسافات، من قبيل أن المواطنة هي مركّب الحقوق والواجبات المترتب على العضوية في الدولة. وبالتسلّح بهذا البعد في مفهوم المواطنة، ندخل إلى أوراق المؤتمر، فيغشانا فزعٌ كثير من النقصان الحاد في "عضوية" المواطن في الدولة العربية. الدولة في سورية، مثلا، المهدّدة بما يقوّض وجودها السياسي والقانوني، والتي يفكّك بنيتها، الراهنة، مروان قبلان، فيرى فيها زيادة الاعتماد على آليات الإكراه لضبط حركة المجتمع، وعلى نفوذ متعاظم للأجهزة الأمنية. الدولة في الجزائر التي يرى حامي حسّان مشروع التنمية فيها متعثّرا ستة عقود. ويراها نور الدين تينو قيد التشكّل والتكوين، حيث الصلة بينها وبين الهوية عضوية. الدولة في المغرب التي أخفقت في التحوّل نحو الديمقراطية وبناء تعاقد اجتماعي جديد، على ما يذهب محمد أحمد بنّيس. الدولة التقليدية في جوهرها، على الرغم من شكلها حديثةً إلى حد ما، في موريتانيا، كما يشخّصها أحمد أنداري. والتي يستمرّ فيها استشراء الفساد، ويغيب عنها الحكم الرشيد، وتسيطر نخبة تقليدية على القرار السياسي والموارد الاقتصادية، على ما يقول محمد المختار ولد بلاتي. الدولة التي يستفحل فيها العجز عن التقدّم في البلدان المغاربية، كما يخلُص رضا حمدي. الدولة في الأردن التي يسهم الانقسام الديمغرافي في إعاقة تشكيل الهوية الوطنية، على ما يطرح محمد غازي الجمل. الدولة في مصر التي تساعد اللامركزية اللارسمية النظام السلطوي فيها على السيطرة على المجتمعات المحلية. الدولة في العراق التي يُخبرنا لؤي خزعل جبر أن بنيتها التسلطية نفسية اجتماعية، وتتفاعل، بطريقة جدليةٍ ديناميةٍ، مع البنيات الاقتصادية والسياسية، فتنتج "ديناميات الخوف الجمعي". الدولة في السودان التي تتمدّد فيها القوات ذات الطابع المليشياوي، وهذا معطىً تستأنس به رويدة محمد عبد الوهاب في فحص مؤشّرات قياس الدولة الفاشلة.
ليس أن يتضاعف الإحباط فينا أكثر مما هو متوطّن فينا هو المُراد من تقديم المركز العربي هذه الرؤى، وغيرها، في مؤتمرٍ متنوع المقاربات، والنّتف أعلاه تُخلّ بمتانة أطروحات أوراقه وعلميتها وتماسكها، وإنما أن نحدّق في أعطاب جسد الدولة العربية جيدا. ولعل مجد أبو عامر أوجَز وأوفى، لمّا أفاد بأن الدولة العربية تعاني فشلا في البناء نتج عن إقصاء الأمة من سيرورة بناء الدولة، حيث احتكرت الطبقة الحاكمة العنف من دون إدماج المجتمع سياسيا. وخلص إلى أن الدولة العربية تواجه خللا في تأدية مهماتها الرئيسية وأزمةً في شرعيتها. .. إذن، ماذا نفعل؟