في آفاق الحوار التركي السوري
فتح اللقاء، الأربعاء الماضي (28/12/ 2022) في موسكو، بين وزراء دفاع ورؤساء أجهزة استخبارات روسيا وتركيا وسورية آفاقاً جديدة في مسار إنهاء عقد من العداء بين أنقرة ودمشق. كون اللقاء هو الأول المُعلن على هذا المستوى العسكري الرفيع بين الجانبين، التركي والسوري، مع استثناء اللقاءات الاستخباراتية الثنائية العديدة التي لم تكن مُعلنة، والأول أيضاً في إطار الآلية الثلاثية التي سبق واقترحها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لتسريع العملية الدبلوماسية، فقد اكتسب أهمية على ثلاثة صعد: إطلاق عمل الآلية الثلاثية التي من شأنها أن تنقل الحوار بين تركيا والنظام السوري من المستوى الأمني والاستخباراتي إلى المستوى السياسي. إضفاء طابع رسمي على المفاوضات. تخلّي نظام الأسد عن تردّده في الانفتاح على الحوار مع أنقرة وقبوله مبدئياً خريطة الطريق التركية. مع ذلك، ليس إطلاق الآلية الثلاثية سوى خطوة في طريق طويل. تكمن أهمية هذه الآلية في أنها رسمت مساراً قابلاً للتطبيق، ويعمل بالتدرّج وعلى مستويات عدّة. كما أن الرعاية الروسية لمسار الحوار التركي السوري تمنحه زخماً أكبر، وتُساعد في فعاليته واستمراريته.
حقيقة أن العداء بين أنقرة ودمشق مضى عليه أكثر من عقد، وهناك قضايا كثيرة معقّدة سيكون التفاوض عليها صعباً، تُقلل من الرهانات على إمكانية إحداث تحول جوهري في مسار العلاقات. لذلك، تسعى الآلية الثلاثية إلى التعامل بواقعية مع هذه التعقيدات، من خلال التركيز على ثلاثة مسارات أساسية للتعاون: مكافحة الإرهاب، وإعادة اللاجئين، ودفع عملية التسوية السياسية للصراع السوري. على اعتبار أن الأولوية الرئيسية تتمثل، في الوقت الحالي، في إيجاد تعاون ثلاثي في مكافحة المشروع الانفصالي للوحدات الكردية، وثني تركيا عن خيار العملية العسكرية البرّية التي لوحّت بها ضد هذه الوحدات، فإن المرحلة الأولى من عمل الآلية الثلاثية ستُركّز على هذا الجانب. على الرغم من أن التوصّل إلى توافق بشأن تعاون مشترك ضد الوحدات الكردية تعترضه عقباتٌ كثيرة، من بينها تحديد مستقبل الوجود العسكري التركي في شمال سورية، ومصير المناطق الخاضعة للسيطرة التركية، فضلاً عن العامل الأميركي الذي يُشكّل تحدّياً لفعالية أي تعاون ثلاثي، إلا أن التركيز في هذا الجانب سينصبّ على التعاون في إخراج الوحدات الكردية من ثلاث مناطق، عين العرب (كوباني) ومنبج وتل رفعت. في الأيام الأخيرة، أرسل النظام تعزيزات عسكرية إلى محيط هذه المناطق، في مؤشّر على تنسيق محتمل مع تركيا وروسيا.
قضايا كثيرة معقّدة سيكون التفاوض عليها بين دمشق وأنقرة صعباً، تُقلل من الرهانات على إمكانية إحداث تحول جوهري في مسار العلاقات
مؤكّد أن الوصول إلى اتفاقٍ على تعاون في مسألة الوحدات الكردية وإعادة اللاجئين يتطلب تفاوضاً صعباً يُلبي أهداف تركيا، ويضمن لدمشق توافقاً على جدولٍ زمني لانسحاب القوات التركية من شمال سورية، غير أن الآلية الثلاثية توفّر بيئة استخباراتية وأمنية وسياسية مناسبة لدفع المفاوضات. تبرز اتفاقية أضنة التي أبرمت بين البلدين عام 1998 أرضية للتفاوض. وفي مسألة اللاجئين، يُمكن التوصل إلى بروتوكولات تعاونٍ فيها. بالنّظر إلى النفوذ القوي لروسيا على الأسد، فإنها أثبتت قدرتها على إقناعه بالدخول في الآلية الثلاثية. تتعاطى موسكو مع الانفتاح التركي على الأسد من منظور حاجة أردوغان التي تفرضها اعتباراتٌ أمنية وانتخابية. وبالتالي، هي تنظر إلى هذه الحاجة فرصة لدفع أردوغان إلى التعامل بواقعية مع مسألة العلاقة مع النظام والإقرار بوجوده طرفاً رئيسياً على الطاولة، بدلاً من مواصلة الاعتماد على التفاهمات مع روسيا بخصوص سورية، مع الأخذ بالاعتبار أن اندفاعة أردوغان نحو دمشق قد تتراجع بعد الانتخابات، فيما لو نجح بالبقاء في السلطة، ولم يجد استجابة سورية لخطواته، فإن موسكو حريصة على تكريس وضع جديد في العلاقات التركية السورية قبل الانتخابات وعدم انتظار نتائجها.
تبرز مسألة الأمن عاملاً رئيسياً في دفع المسار الدبلوماسي بين أنقرة ودمشق. تعتقد روسيا أن إيجاد مسار سياسي بين الجانبين سيُحفّز أردوغان على التخلّي عن خيار العملية العسكرية ضد الوحدات الكردية. في ضوء أن فشل المسار التفاوضي سيُعيد تفعيل خيار العملية البرّية، فإن من شأن ذلك أن يُشكّل ضربة كبيرة لهذا المسار، ويزيد من تعقيداته في الفترة المقبلة. من هذا المنظور، ستكون فوائد انفتاح الأسد على أردوغان أكبر من أضرارها. كما أن التعاون في الجوانب الأمنية يزيد الضغط على الوحدات الكردية للعودة إلى دمشق، وأيضاً على الولايات المتحدة، للانسحاب من سورية. علاوة على ذلك، ستحفّز المصالحة التركية مع الأسد دولاً أخرى لإعادة تطبيع علاقاتها مع دمشق، وتفتح آفاقاً جديدة للأسد للحصول على منافع سياسية واقتصادية. من شأن التعاون الثلاثي التركي الروسي السوري أن يُساعد النظام في استعادة السيطرة على آبار النفط في شمال شرق سورية، والحصول على موارد مالية تشتدّ إليها الحاجة لمواجهة الضائقة الاقتصادية التي يمرّ بها. يبقى أن الوصول إلى مثل هذه النتائج يتطلّب توفر البراغماتية لدى أردوغان والأسد بقدر أكبر للمضي في هذه العملية، والتفكير في فوائدها بقدر أكبر من أضرارها المحتملة عليهما.
لا تبدو الظروف الحالية مساعدة لجمع أردوغان والأسد على طاولة واحدة، قبل التوصل إلى تفاهمات واضحة بشأن قضايا رئيسية
يبدو أن تركيا بتفعيل الآلية الثلاثية قرّرت تجميد خيار العملية العسكرية البرّية والدخول في مساومة مع موسكو ودمشق، للتوصل إلى صيغة تعاونية تُلبي احتياجاتها الأمنية. سيكون لموسكو دور أساسي في رعاية المسار التفاوضي بين أنقرة ودمشق. لا بُد أيضاً من الأخذ بعين الاعتبار أن المصالح التي تجمع تركيا وروسيا تتجاوز الجغرافية السورية، وترتبط بشكل أوسع في قضايا جيوسياسية أخرى، تمتد من آسيا الوسطى إلى جنوب القوقاز وليبيا مروراً بالبحر الأسود وأوكرانيا. كما أنّ لدى موسكو أولوية تتمثل في الحفاظ على الستاتيكو العسكري القائم في شمال سورية من دون الإخلال به، بالنظر إلى أن أي إخلالٍ به سيدفعها إلى إعادة تركيز اهتمامها على إعادة استقرار الوضع، بينما هي منهمكة في حرب أوكرانيا. كما تمنح التحولات الجيوسياسية العالمية على صعيد الشراكة التركية والروسية وفي الاضطرابات المستمرّة في علاقات أنقرة بالدول الغربية زخماً إضافياً للسياسة التركية الجديدة في سوريا. على الرغم من عقباتٍ كثيرة تواجه مشروع الآلية الثلاثية، إلا أنها تبدو خياراً أكثر واقعية لمسار تفاوضي في هذه المرحلة.
أخيراً، لا تبدو الظروف الحالية مساعدة لجمع أردوغان والأسد على طاولة واحدة، قبل التوصل إلى تفاهمات واضحة بشأن القضايا الرئيسية، لكنّ الآلية الثلاثية مُصمّمة لتفكيك هذه العقد بشكل تدريجي، وتأسيس بيئة سياسية مناسبة لدفع مسار الحوار التركي السوري. يُمكن أن تؤدّي اللقاءات الثلاثية، التي ستستمر في الفترة المقبلة، إلى تفاهماتٍ جزئية بين الجانبين على التعاون في ملفي الوحدات الكردية واللاجئين، من دون أن تصل إلى حد إعادة العلاقات الدبلوماسية. وتشكّل مثل هذه التفاهمات مصلحة للأسد وأردوغان على حد سواء. فمن جانبٍ، سيُجبر أردوغان على التخلي عن خيار العملية العسكرية، والشروع بدلاً من ذلك في تنسيق أمني مع النظام، لإعادة سيطرته على المناطق التي تُديرها الوحدات، لا سيما تل رفعت ومنبج وعين العرب (كوباني)، واستعادة المعابر، والعودة المدنية إلى المناطق التي تديرها تركيا. ومن جانب آخر، سيحصل أردوغان على دعم ثنائي من موسكو ودمشق لمشروع المنطقة العازلة على الحدود بعمق ثلاثين كيلومتراً. كما أن تعاوناً محتملاً في إعادة اللاجئين يُساعد أردوغان على الحدّ من تداعيات هذه القضية على وضعه الداخلي، وتحويلها إلى ورقة انتخابية رابحة.