فيلم فرحة... حين تبوح الضحية
ما زال كثيرون من أبناء فلسطين ممّن عاصروا نكبة 1948 أحياءً يرزقون، في وسعهم سرد حكايات الأهل بحذافيرها عن تفاصيل المؤامرة التي أدّت إلى تهجيرهم من قراهم ومدنهم، متوهمين وقتها أنه رحيلٌ مؤقت، سرعان ما ينتهي، ويعودون إلى بيوتهم، ويمارسون حياتهم بشكل طبيعي، فيذهبون إلى أعمالهم ومدارسهم وحقولهم، ويعودون في المساءات إلى دفء بيوتهم. كانوا على يقين بأن ذلك سيتحقق حال وصول الجيوش العربية لتساند رجال المقاومة من أبطال فلسطين الذين تصدّوا بأجسادهم وأسلحتهم الضئيلة للهجوم الباغي على أمنهم وأمانهم في قراهم الصغيرة الوادعة، غير أن ذلك لم يحدُث، وفرضت القوة منطقها، واحتُلت فلسطين التي صارت في أدبياتنا الوطن السليب الذي أنشدنا له في المدارس قصائد الحنين التي لا تغني عن قهر الهزيمة.
تسنّى لبعض أبناء الـ48 زيارة بيوتهم العتيقة التي احتفظوا بمفاتيحها، وقد استباحتها العصابات الصهيونية من دون وجه حق بمباركة (ودعم) بريطانيا الاستعمارية وحلفائها من قوى الغرب. أسهم في ذلك ضعف العرب وتخاذلهم، ما هيّأ الظروف لنشوء الكيان الصهيوني المغتصب الهجين، وهذا تاريخ قريب نكاد نلمسه بالحواس كافة، موثقاً بالصوت والصورة، وما زال ماثلاً في الذاكره الجمعية واحداً من أيام الحزن العربي، وهو لا يحتمل تضليلاً أو إعادة تأويل. من يجرؤ حتى من مؤرّخي العدو الصهيوني، رغم وقاحتهم وانعدام ضميرهم، على إنكاره أو التنصّل منه في محاولاتهم البائسة لتبييض صفحة كيان محتل، شرّد شعباً بأكمله، وفرضه على المجتمع الدولي دولة حضارية ديمقراطية تتبنّى حقّ الانسان في التعبير. لا يسجن ولا يقتل حتى اللحظة بنات فلسطين وشبابها الثائرين؟!
إذا كان الأمر كما يدّعون، فما مبرّر هذه الهجمة الشرسة على فيلم "فرحة"، الذي يُعرض حالياً على "نتفليكس"، ويمثل الأردن في المنافسة على جائزة أوسكار لأفضل فيلم أجنبي، وقد سبق عرضه في عدة مهرجانات دولية، وحقق جوائز عربية. يروي الفيلم ملمحاً بسيطاً من المأساة الفلسطينية، من باب حرية التعبير والحق في إبداء الرأي. ومن باب هذا الحق بالذات، أُنجزت على مدى سنين أفلام ضخمة الإنتاج عن معاناة اليهود في أوروبا، كما دأبت هوليوود على تكريس صورة نمطية بشعة عن العربي الإرهابي المتخلف المعادي للسامية، الظالم المتجني على الصهيوني اللطيف الذي تعرّض للاضطهاد والإبادة. وبالتالي، من حقه، من باب التعويض، اغتصاب أرض وتشريد شعب ليس له أي ذنب!
يحكي فيلم فرحة، من إخراج وتأليف دارين سلام، المستوحى من أحداث حقيقية، قصة فتاة فلسطينية قروية في الرابعة عشرة من عمرها، تدعى فرحة، تتمتع بوعي مبكر وشخصية قوية، قادرة على تحدّي التقاليد، وتحلم بإكمال تعليمها في المدينة، حين تداهم قريتَها عصاباتٌ صهيونية فتهجّر أهلها، ويخبئها والدها في غرفة المؤن حماية لها قبل أن ينضم إلى الثوار في الدفاع عن القرية. ومن كوّة صغيرة، تشاهد الفتاة تفاصيل مجزرة ارتكبها الصهاينة في حوش الدار، بحقّ عائلة فلسطينية، يُقتل الأب والأم والأطفال بدم بارد، قبل أن تتمكّن من الهرب بعد أن فقدت الأمل بعودة والدها.
نظّم الاحتلال الإسرائيلي حملة تحريض واسعة ضد الفيلم، واتهمه بتصوير الصهيوني قاتلاً متحجّر القلب (يا حرام!). ودعا إلى مقاطعة "نتفيلكس"، زاعماً أن "فرحة" ينبني على كذبة، ويشجّع كراهية الجنود الإسرائيليين. وطالب الاحتلال الشبكة بوقف عرض الفيلم، ضارباً عرض الحائط بمزاعمه بشأن حقوق الإنسان وأهمية حماية حرية الفن في التعبير، فاضحاً نزعته العدوانية العنصرية محتلاً بغيضاً يحقّ له الاستئثار بالمنابر الدولية، محتكراً الحكاية مروّجاً الأكاذيب المكشوفة.
تحية كبيرة إلى الفنانة المبدعة دارين سلام، وهي تستثمر الفن كي تعلي كلمة الحق، وتبيح للضحية سرد الحكاية بكل أوجاعها!