فيلم النزاع بين جوني ديب وطليقته أمبر هيرد
المحاكمة شغَلت مليارات من أبناء الكوكب. أبطالها جوني ديب، نجم هوليود الستيني، وطليقته الثلاثينية أمبر هيرد، الساعية إلى النجومية. ميزانيتها تجاوزت المئة مليون دولار، بأجور محاميها وموظفيها وغراماتها "العِقابية". مواقع التواصل الإلكتروني على أنواعها، نجوم الفن وعارضات الأزياء ورجال السياسة .. كلهم أعطوا آراءهم بالموضوع. كذلك النوابغ من أصحاب المليارات، حضرَت أسماؤهم، ولم يحضروا. مثل إيلون مارسك (السيارة الكهربائية)، الذي تراجع في اللحظة الأخيرة عن الشهادة لصالح أمبر هيرد. وأيضا نيكول كيدمان، التي حذّرتها من "إعدام" فيلمهما المشترك "رجل المياه". وصعدت نجمةٌ أخرى، عارضة الأزياء كات موس، خطيبة جوني ديب السابقة، لتشهد على رقّته. وفانيسا بارادي، زوجته السابقة، وقد استُعيد كلامها عن مدى لطفه.
بدأت القصة بطلاق وانتهت بآخر. جوني ديب يطلق فانيسا بارادي، أم أولاده، من أجل أمبر هيرد. ثم يطلِّق هذه الأخيرة بعد عامين، ويدفع لها سبعة ملايين دولار تعويضاً. صحيفة ذي صنْ البريطانية تجري معها مقابلة، وتخلص إلى أن ديب هو "الرجل الذي يضرب النساء". قضية أولى يرفعها ديب ضد الصحيفة، دفاعاً عن سمعته، ويخسرها.
بعد ذلك، تُعيَّن أمبر هيرد سفيرة حقوق المرأة في "الإتحاد الأميركي للحريات المدنية"، وتكتب مقالاً في "واشنطن بوست"، تروي فيه تعرّضها منذ الصغر للتحرّش الجنسي، وتلمّح عدة مرات إلى عنفٍ جنسيٍّ تعرّضت له شخصياً في بيئتها المباشرة. ويستنتج جوني ديب أنه المقصود، فيرفع دعوى تشويه سمعة، ويخرج منها رابحاً، مرتاحاً لمستقبله المهني، بعدما هدّدته أخبار عنفه الجنسي وإفراطه في تناول الكحول والمخدّرات. فانقسمت ردود الأفعال بشدة، بين "معسكر" الذكوريين الذين وجدوا في انتصار جوني ديب القانوني ثأراً من حملةٍ هزّت مضاجعهم. حملة "أنا أيضا" (مِي- تُوو)، لفضح العنف الجنسي على أشكاله، التي انتشرت بسرعة، وتُرجمت إلى اللغات المختلفة، وصارت لها إشارات ومشاريع قوانين وروايات وقضايا أمام المحاكم. أما "المعسكر" المقابل، النسوي، إذا جاز تلخيصه، فاعتبر أن المحاكمة كانت ملعوبة، وأن جوني ديب استفاد من شعبيته العالمية .. كل هذا أضرّ بأمبر هيرد، وخسرت القضية، وفُرِضت عليها غرامة عشرة ملايين دولار. ومع أن المحكمة اعترفت بعنف جوني ديب، وفرضت عليه غرامة أيضاً، ولكن أقل حجماً، قدرها مليونا دولار فقط .. وفي أميركا نفسها، طلعت المجموعات والشخصيات الجمهورية واليمينية بعبارات النصر المُبين. دونالد ترامب كتب على منصّته الخاصة عن إعجابه بهذا "الكوبل الجميل". واستهزأ بأقوالهما عن العنف المنزلي، وكأنه بذلك يرى أن العنف الجنسي بين الأزواج من الأمور "العادية"..
كان ثمّة تنمّر شبه منظَّم ضد هيرد. أرقامه المليارية، واستهدافها بالذات، جعلا بعضهم يتساءل عما إذا كان وراءه جيش أو ذباب إلكتروني
لم يخرج هذا كله من السياق الأميركي الداخلي، فالمعركة محتدمة قبل القضية، وينقسم الأميركيون حولها قسمة متساوية، أيضاً. فريق جمهوري يعادي كل الأقليات، الملوّنين، المثْليين، والنساء. وتفرض محكمته العليا إلغاء قانون حرية الإجهاض. والمحكمة نفسها رفضت مشروع قانون منع اقتناء السلاح.. والديستوبيا بالنسبة لأهل هذا المعسكر أن تصعد هذه الأقليات، وتصبح أميركا تحت حكم النساء والمثْليين والملوَّنين.. هذه حربٌ أهليةٌ "باردة"، وإن شابها عنف، كالذي شاهدناه غداة انتخاب جو بايدن رئيساً.
لماذا خسرت أمبر هيرد قضيتها؟ أو بالأحرى لماذا ربحها جوني ديب في أميركا، بعدما كان قد خسر واحدةً مشابهة تماماً في بريطانيا؟ طبائع أمبر هيرد كما ظهرت في أثناء المحاكمة، المنقولة على الهواء. سبقتها سمعتها السيئة، من تعاملها الفظّ مع المشتغلين بالسينما، ومن الأصدقاء، وبصفتها "فتاة جميلة وحسب". وظهر أيضا كذبها القصير، أنها لم تمنَح التعويض الذي قبضته من طليقها جوني ديب، أي السبعة ملايين دولار، كما سبقَ وادّعت، إنما احتفظت به. وأنها بدل أن تتابع حياتها العادية بعد الطلاق، أرادت لنفسها مزيدا من الشهرة بأن كتبت ذاك المقال في "واشنطن بوست". والأهم من ذلك كله أنها لم تكن مقْنعة، لم تكن "موهوبة" في إنتقالها السريع من البكاء الشديد إلى السكون: "دموع التماسيح"، قال عنها أحد أعضاء لجنة التحكيم. فيما جوني ديب، الماهر، الضحية، تمتع بـ"مصداقية عالية". كان أداؤه مقنعاً، "طبيعيا"، ومسنوداً من الشهود الذين استدعتهم المحكمة. في مقابل "شهود زوجته" الذين تنصّلوا في الدقيقة الأخيرة ولم يحضروا.
ليس من المنطقي أن تنتصر النسوية على طول الخط، وتنتصر ضحاياها معها، كما "ينتصر" الرجال في حروبهم، أو كما يتوهَّمون دائماً
ولكن، هذه الإنطباعات السلبية عن أمبر هيرد لم تهبط من وحي، ولا استمرّت بالحياة طوال الأسابيع الستة من المحاكمة، لولا عامل حاسم. أعني الحملة الإلكترونية لصالح جوني ديب، والتي بلغت أرقاماً خيالية أخرى. يعني لتكوين فكرة عن هذا الحجم، نزلَ هاشتاغَان: # العدالة من أجل جوني ديب، و# العدالة من أجل أمبر هيرد. نال الأول أحد عشر مليار دعم، والثاني واحدا وأربعين مليونا. على "التيك توك"، الأمر نفسه: جوني ديب استحوذ على خمسة عشر مليار مشاهدة، وأمبر هيرد، على واحد وخمسين مليونا فقط.. وتتجاوز هذه المليارات عدد سكان الكوكب. ولا تُنسى التظاهرات الحماسية التي كانت تستقبل جوني ديب على باب المحكمة، وصرخات الإعجاب المجنونة، واليافطات المتعاطفة مع "رجل الأحلام". وصفوف المنتظِرين على أبواب المحكمة، ليحظوا بالإذن للدخول إليها ومشاهدة المحاكمة "شخصياً" .. وعددهم يجب ألا يتجاوز المئة.
امتدّت الحملة إلى مواقع تواصل أخرى، رافقتها الشتائم والاستخفاف والسخرية والكراهية، ومعها عبارات وكلمات أُلصقت بأمبر هيرد: كاذبة، نرجسية، متلاعبة، "الشيطان بعينه"، متعطّشة للمال. فهُشِّمت تماماً. فيما تكلّم كثيرون من بين رواد المواقع عن الأثر الذي تركه جوني ديب في ذكريات الطفولة ("صانع ذكريات طفولتي" قال عنه أحدهم)، كم هو يمثل البراءة بالنسبة لهم، كم هو نقيّ وجميل، كم هو فنان كبير. أما هي، المعتمدة على جمالها، فبلا موهبة، ولا حضور.. فشنّوا حملة على فيلم "رجل المياه"، قالوا بمقاطعته، وأعلنوا في المقابل أنهم سوف يشاهدون كل أفلام جوني ديب مرتين وثلاثا وأربع مرات.
كان ثمّة تنمّر شبه منظَّم ضد هيرد. أرقامه المليارية، واستهدافها بالذات، جعلا بعضهم يتساءل عما إذا كان وراءه جيش أو ذباب إلكتروني. وكان من "إنجازات" هذا "الجيش" أنه قتل هيرد من دون إطلاق الرصاص، بجنوده الإلكترونيين. قتل معنوي بطيء ومباشر، تزامن مع جلسات المحاكمة العلنية. مع كل يوم جديد، اسكْتشات جديدة، مهزّئة بحق أمبر هيرد، وبتعابيرها ولبسها وشعرها، فاستبق حكم المحكمة، وأنزل حكمه بالقتل المعنوي.
يمكن أن تكون أمبر هيرد عديمة الجاذبية والموهبة والأخلاق، ولكنها، في الوقت عينه، ضحية عنف جنسي زوجي
القتل المباشر، ومن دون أية محاكمة، على يد جمهرةٍ من الناس هي جريمة في القانون الفيدرالي الأميركي. ولكن هذا القانون لا يعترف بالرجم المعنوي، ولا بالقتل الإلكتروني. لا يريد أن ينظر إليه، مع أنه مؤثر في مجرياته. كيف يتم ذلك؟ ليس معروفا بالضبط. لكن المؤكّد أن قرار القاضية فتح الباب للكاميرات على مصراعيه، ومعها أبواب مواقع التواصل، مسيء للعدالة، ويجعلها تابعة له، فيما المفروض أن الجسم القضائي مستقلٌّ عن السلطات.
أما هزيمة أمبر هيرد في هذه القضية، والتي أعادت شبح "الباكْ لاشْ" (التراجع) بعد قضية الإجهاض الخاسرة أيضاً، فهي جديرةٌ بالحذَر: لأن معركة العنف الجنسي ضد النساء سوف تشهد على فتراتٍ من التراجع وأخرى من التقدّم، لا نستطيع من الآن قياس مدى الاثنتَين، طويلةً كانت أم قصيرة، فليس من المنطقي أن تنتصر النسوية على طول الخط، وتنتصر ضحاياها معها، كما "ينتصر" الرجال في حروبهم، أو كما يتوهَّمون دائماً.
ولكن، من النباهة بمكان ألا تُسْتَنْفر "العصبية" النسوية وحدها كلما دقّ الكوز بالجرّة، فنحن نعلم من التجربة أن الضحايا، سابقين كانوا أو حاليين، يمكنهم أن يتزوّدوا بالشرّ، بالعنف، بالإستضعاف، بالتلاعب بالمشاعر، بلعب دور الضحية، بألوانٍ من المكْر الموروث .. من أجل نيل خير ما من الخيرات المشتهاة، وفي حالتنا، من منطلق "حقوق المرأة". ولكن أيضا: يمكن أن تكون الشخصية المعنية، مثل أمبر هيرد، عديمة الجاذبية والموهبة والأخلاق، ولكنها، في الوقت عينه، ضحية عنف جنسي زوجي، فهل ندينها على شخصيتها، أم ننصرها على حق، لم تَنْفه المحكمة أصلاً؟
ومن كان منكم بِلا خطيئة فليرْجمني ..