فوضى القوالب
القالب غالب، كما يقول المثل. ويُقصد به قائله المديح، هنا، فالجميل يبقى جميلاً حتى لو كان في عمر متقدّم، أو في مظهر غير ملائم. مثل ما فعلت مارلين مونرو لمّا قيل عنها إنها تبدو بهذا الجمال لأنها ترتدي أجمل الملابس، فارتدت شوال بطاطس، وكان أجمل مما بدت فيما سبق. لكن ليس كل قالب جميل، ولا يصنع النحاتون قوالب للجميلات والفرسان ذوي الأجساد الرياضية فقط، بل يخلقون قوالب للسحنات البشعة والغاضبة، وللوجوه ذات الملامح اللئيمة.
أقوى القوالب، قوالب المجتمع الجاهزة التي يوضع فيها كل وليد حالَما يُطلق صرخته الأولى. حينها يكون القالب جاهزاً ليكون بديلاً للرّحم. منذ تلك اللحظة، وهذا الإنسان المستجدّ على الحياة لا يحلم بأن يخرج منه. إلّا إذا أراد أن يكون الابن الضال، ويهجر القالب وأهله، وكلّ القوالب الغوالب، بجميلها وقبيحها.
الإنسان مرآة أخيه، يقول الحديث. وهذا يمكن أن يكون صحيحاً إلى حد بعيد، فحتى المرآة الزجاجية الحقيقيّة ليست سواء في رؤيتها لك، فهناك مرايا ترى فيها نفسك بمنتهى النحافة والرشاقة، وأخرى تجزع لمظهرك البدين فيها. هناك مرايا تضع مسحة جمال محبّبة على ملامحك، حتى وأنت في غاية التعب والمرض. حالما تنظر وترى أنك لم تفقد ملاحة وجهك، تُسرّ وترتفع معنوياتك. وإذا أردت أن تعرف سنّ المرء ووجهه الحقيقي، حرفيا، أنظر إليه مريضاَ، حينها تجد التجاعيد الخفية طريقها إلى الواجهة، والجفون تنتفخ والعبوس الداخلي يخرج إلى الحياة، بكامل جهامته و"بجاحته".
وبالعكس، هناك مرايا متخصّصة في جعلك صاحب منظر بشع ومنفّر، تتعوّذ بالله حالما ترى نفسك فيها. تقول: من هذا المخلوق البشع؟ خصوصا إذا ترافقت مع إضاءة ذات أبعاد معينة، مثل إضاءة صفراء ضئيلة تجعل وجه أي إنسان أقرب إلى الشبح أو الزومبي. بتقسيم الضوء إلى مناطق، تجعل منك فرانكشتاين، كل قطعة من وجهك تختلف عن أخرى.
هكذا هو الأمر مع البشر؛ بعضهم يجعلك جميلاً حتى لو لم تكن كذلك، وآخرون يخرجون منك القبح، حتى لو كنت بالغ الحسن والجمال. وهذا الجمال لا يُقصد به، بالضرورة، المعايير الرائجة للجمال، بل ذلك الإشعاع الذي يصدر من عيني شخص ما، والطمأنينة التي يبعثها النظر إلى وجهه، فما من شيء عشوائي في الأثر الذي يتركه المرء على الآخرين. فكما يقول جيمس غليك: "اكتشف بعضهم ما يشبه البنية ضمن السلوك العشوائي ظاهرياً. لقد كان مثال الرقاص أكثر تعبيرا عنه.. ورغم أن الفيزياء تفهم الميكانيكيات الأساسية في حركة الرقاص، إلا أنها لا تستطيع فهم تقلباتها على المدى الطويل". ويقول أرنستو ساباتو: "فلنمنح أنفسنا بعض الوقت، لنحلم بالرفعة التي يمكن أن نصبو إليها مرة أخرى، إن نحن تجرأنا على النظر إلى الحياة بطريقة مختلفة عن المألوف". يضيف ساباتو إن سيادة العلم والارتقاء المصاحب له باتا في معظم القرنين التاسع عشر والعشرين مسألة كفيلة بتقزيم الفرد، وجعله ليس أكثر من ترس صغير في آلة عملاقة، والمنظّرون الرأسماليون والماركسيون ساهموا جميعاً في ترسيخ هذه النظرة المشوّهة والباعثة على الحزن: نظرة الفرد الذي يذوب في الجموع، حيث يُختَزَلُ شقاء الروح وعذابها المروّع في محض انبعاثات إشعاعية يمكن قياسها فيزيائياً".
المقصود بالقالب الغالب أنّ القالب الأول هو الذي يوضع فيه المرء أولا، ذاك الذي سيرافقه في طرق الحياة إلى آخر العمر. مهما حاول آخرون وضعه في قوالب أخرى. ومهما حاول هو نفسُه التحرّر من هذا القالب، والمشي خارجه بكل براح وارتياح، إلا أنّ القالب الذي التصق بجلده لن يتزعزع من مكانه كظله. هل يمكن للمرء حذف ظله؟ إذن، ولا قالبه كذلك. كل ما يفعل يكون إما بدافع من هذا القالب، وما علمه من حركات وكلام شكلت شخصيته وختمتها بطابع المجتمع الذي وُلد فيه، أو يكون معارضا لما يفرضه هذا القالب عليه سعيا لتحقيق "سعادة المتوحد" التي تغيب في تدبير المدينة، بحسب الفيلسوف الأندلسي، ابن باجة، في كتابه "تدبير المتوحد"، هذا الأخير يقوم بتدبير ذاته ساعيا لتغيير طباعه السيئة ليحصل على سعادة المفرد، قبل أن يسعى لقلب أوضاع المدينة في سبيل سعادة المجتمع كاملا.