فلسطين وأوكرانيا .. المقارنة العرجاء
من المصادفة هنا أن مثلاً ألمانياً يقول إن كل مقارنة عرجاء. والمقارنة هنا ليست متعلقة فقط بألمانيا صاحبة المثل، بل بصويحباتها الغربيات والمعسكر الغربي كله، الذي استنفر كله ووقف على أصبع واحدة نجدةً لأوكرانيا وهي تعيش أزمتها الحالية الطاحنة. المقارنة التي أشعلت مواقع الإعلام الشعبي، وتسلّلت إلى مقالات وتحليلات مراقبين وكتّاب وأصحاب رأي خاصة بوضع أوكرانيا، في محنتها، وفلسطين بنكستها ونكبتها في كفتيْ ميزان، والبدء بعقد نقاط الخلاف والاتفاق في موقف الغرب من معاناة الطرفين. وكان من الواضح هنا أن أهل المقارنة أصيبوا بـ"الدهشة!"، لأن الغرب بدا أنه انقلب على نفسه، وشرع في "تغيير" مفاهيمه واصطلاحاته عن المقاومة والإرهاب والاحتلال والغزو والضحايا. والحقيقة أنه لم ينقلب على نفسه ولم يغيّر جلده، فقد كان منسجما مع نفسه تماما وهو يعتبر ما يفعله الأوكرانيون في مواجهة القوات الروسية "مقاومة" وما يفعله الفلسطينيون في مواجهة القوات الصهيونية "إرهابا" وما يقوم به الروس غزوا واحتلالا، أما ما يفعله الصهاينة في فلسطين فهو عودة إلى وطن الأجداد، وربما "تحرير" لأرض الميعاد!
ما تقوم به قوات روسيا "جرائم حرب" وما تقوم به قوات الاحتلال الصهيوني نوع من "حق الدفاع عن النفس". والمقارنات هنا تطول وتتشعب، فمعركة الأوكرانيين هي معركة الغرب، وهي جديرة بأن تُمدّ بالسلاح بأنواعه كافة، وبأن تحشد آلة الإعلام الغربي كل ما تستطيع للانتصار للشقيقة أوكرانيا، أما فلسطين فلا يربطها بالغرب وشائج القربى، وبالتالي، فهي لا تستحق أن ينتصر له أصحاب البشرة البيضاء والعيون الزرق.
الحقيقة أن الغرب لم ينقلب على نفسه ولم يغيّر جلده، فقد كان منسجما مع نفسه تماما
أما حكاية عقوبات الغرب على روسيا وحصارها الاقتصادي الشرس، ومصادرة أموالها وأموال رعاياها أو تجميدهما، فتلك حكاية أخرى، هي أشبه ما تكون ببلطجة دولية و"زعرنة" مقوننة، فهذا سلاح مستقرّ في غمده، ولا يجري إشهاره إلا وفق ما تقتضيه مصلحة الغرب وخدمة أهدافه ولا علاقة له ألبتة بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، فالقانون الدولي هو ما اتفق أصحاب المصلحة على قوننته، أما حقوق الإنسان فشأنها شأن ذلك القانون "المرن!" الذي يتمدّد ويتقلّص وفق ما يريد "القوي"، وهو هنا كما كانت تقول أمي "عايب"، يفعل كل ما يُعيب من دون خجل أو وجل، معتمدا على قوته المفرطة ويده الطويلة وسوطه الجاهز لتأديب كل "مارق" على مشيئته. وفي الجملة، لا يمكن لأحد أن يتصوّر أن هناك أي نوع من "العدالة" في مصادرة مال ليس لك أو تجميده، أو منع طيران من دخول سمائك، أو دفع بنوك ومؤسسات إلى الإفلاس، ومن شأن هذا كله أن يدخل العالم كله في "جائحةٍ" أخرى لا تقل لعنة عن جائحة كورونا!
لست هنا في صدد تبرير حرب روسيا وهجومها على أوكرانيا، ولا بصدد التقليل من معاناة الأوكرانيين من هذه الحرب اللعينة، فتلك مسألةُ أخرى، لا مقام لها هنا، لأنها حربٌ معقدة في دوافعها وأهدافها، وهي أحد مظاهر إعادة ترسيم حدود القوة بين "الكبار" ولها أبعاد جيوسياسية واقتصادية بعيدة المدى، وما يبدو منها ليس أكثر مما يبدو من جبل الجليد، وما خفي منها أعظم!
من يريد تصحيح المفاهيم وتعديل كفتي ميزان العدل أن يشمّر عن ساعديه ويحرث أرضه بعجوله، لا بعجول الآخرين
ما يهمنا هو كيفية النظر إلى قبيلة "المطفّفين" في الغرب، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، فهم سادة الكيل بمكيالين، ومن يحسب لحظة أن لديهم ذرة من أخلاق أو عدالة فهو واهم كبير، فـ "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا"، وتلك مقولة توصل لها أجدادنا من مفكري بدايات العصر الحديث، وإن كانت منسوبة للشاعر الإنكليزي، روديارد كبلنغ (1865- 1930) المولود في الهند، والحائز جائزة نوبل للآداب عام 1907. وبمعنى آخر، ليس لشرقيٍّ أن ينتظر عدلا أو انتصارا من غربي. وعلى الشرق أن يقلع شوكه بيديه، ويكفّ عن تلك المقارنات العرجاء، ذلك هو أحد دروس التاريخ أهمية مما يمكن أن يغيب عن الأذهان، فطوال الحقب الماضية كان الشرق والغرب في نزاع وتجاذب وصراع لسيطرة كل طرفٍ على الآخر. وبالتالي، من ينتظر توحيد المعايير ووزن الحياة البشرية بميزان واحد هو كمن ينتظر غودو الذي لا يأتي حتى في روايات صموئيل بيكيت.
فلسطين لن تكون أوكرانيا، والانتصار للأخيرة هو جزء من عقيدة الغرب، وكذا هو الأمر بالنسبة لخذلان فلسطين ومباركة الغزو الصهيوني لها. وعلى من يريد تصحيح المفاهيم وتعديل كفتي ميزان العدل أن يشمّر عن ساعديه ويحرث أرضه بعجوله، لا بعجول الآخرين.