فلسطين .. مقاومة شعبية وأداء سياسي باهت
دخلت جنازة الصحافية شيرين أبو عاقلة التاريخ، بوصفها محطة مهمة في سياق المقاومة الشعبية الفلسطينية. وتقاس أهميتها في أنها عمليةٌ لم تخطّط لها جهة رسمية، بل هي رد فعل شعبي على ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، الذي لا يتوانى، في أي لحظة، عن استعمال كل ما لديه من عنف وقوة ضد الفلسطينيين، بغض النظر عمّن يقف في طريقه، لا يفرّق بين رجل وامرأة، طفل أو شيخ، مسلّح أو أعزل. الفلسطينيون أهدافٌ دائمةٌ يتعامل معها الاحتلال بأقصر الطرق، العصي أو الرصاص أو الدبابات والطيران. ولذلك لم تُثر جريمة اغتيال صحافية مرموقة ردود فعل وازنة على المستويين، الرسمي والشعبي، في إسرائيل، رغم أنها كان لها وقع الصدمة على المستوى الدولي.
تنجح إسرائيل في تجاوز ردود الفعل الدولية في كل مرّة تجد نفسها أمام حالة إدانةٍ واستنكار، وذلك بفضل براعتها في امتصاص الغضب، وقوتها في وسائل الإعلام الدولية ولوبيات الدعم في أميركا وأوروبا، وتيار المطبّعين في العالم العربي. وهناك أسبابٌ أخرى، أهمها المسافة الشاسعة بين أداء الشعب الفلسطيني وقيادته. شعبٌ يقدّم ما يتجاوز الخيال من بطولات، كي يبقي القضية حية. وفي كل مرّة، تجري محاولة لتصفية القضية يقوم الشعب بانتفاضة أو هبّة فيقلب الطاولة، ولكن القيادة لا تتفاعل دائما، أو لا تتصرّف بما يليق بالأداء الشعبي، وكلما تحرّك الشعب زاد الرهان على تحرّك سياسي يوازي التضحيات، ويرفعها سلاحا من أجل إحداث تغييرٍ في ميزان القوى الذي يفرضه الاحتلال بالقوة. كم من مرّة وصلت فيها المقاومة الشعبية إلى حشر إسرائيل في الزاوية وهزمتها، مثلما حصل قبل سنة إبّان الاعتداءات الإسرائيلية على حي الشيخ جرّاح، التي فجرت هبّة كبيرة على مستوى كل فلسطين، وشارك فيها السلاح من قطاع غزّة، والذي أحرج أسطورة التفوق العسكري الإسرائيلي التي لا يمكن تصريفها في مواجهةٍ مع مقاومةٍ شعبية، صارت متمرّسة وتملك استراتيجيات خاصة بها من داخلها، وشاهدنا ذلك على مدى شهر رمضان الماضي في المسجد الأقصى، حيث نجحت المقاومة الشعبية في إفشال تمرير مشروع تقسيم الأقصى. ومن دون شك، تشكل جنازة أبو عاقلة امتدادًا لما حصل في الأقصى. وكان للتغطية الإعلامية التي قام بها الصحافيون الفلسطينيون في "الجزيرة" والتلفزيون العربي دور بارز في تصليب موقف المرابطين في الأقصى، الذين وصل صوتهم إلى أصقاع العالم كافة، وهذا ما يضع مقتل أبو عاقلة في خانة الإعدام المخطّط، الذي يهدف إلى توجيه رسالة إلى الصحافيين كي ينسحبوا من الميدان، وألا ينقلوا بالصورة الحيّة عن ممارسات الاحتلال ضد الشعب الأعزل ومقدّساته وأرضه وممتلكاته ومصادر عيشه التي بقيت له بعد حملة الاستيطان التي التهمت القسم الأكبر من أرض فلسطين.
تستطيع القيادة الفلسطينية أن تفعل الكثير إذا أرادت أن ترتقي إلى مستوى الأداء الشعبي. ورغم أنها محاصرة ومعزولة ضمن معادلة دولية وعربية، فإنها تمتلك سلاحا قويا، هو بطولة هذا الشعب الذي يلتقي على موقف واحد هو الخلاص من الاحتلال، وأقلّ ما هو مطلوب من هذه القيادة في الضفة الغربية وقطاع غزة أن تحذو حذو الشهيد أبو عمار في الانتفاضة الثانية وما تلاها، حين رفع السلاح بوجه إسرائيل. ويقتضي الواجب الوطني اليوم أن تقدّم أقصى ما يمكن للمقاومة الشعبية من أجل تطويرها كسلاح، ويتطلب ذلك توجيه كل الجهد لدعم أعمال التصدّي لاعتداءات الاحتلال والاستيطان والمستوطنين بشتى الطرق والأساليب، وفي الوقت ذاته، تكثيف العمل على الساحة الدولية والمنظمات والهيئات، ورفع الدعاوى أمام المحاكم الدولية، ولا يمكن لذلك أن يأخذ مداه بقوة من دون وحدة الموقف وتوفير مستلزمات الصمود الداخلي.