11 نوفمبر 2024
فلسطين في طهران وإسطنبول
لا يستطيع أحمد جبريل، منذ عامين أو أكثر، الوصول إلى مكتبٍ له يحتله مسلحون، قاعديون والله أعلم، في مخيم اليرموك في دمشق، غير أنه يعلن، في قناة الميادين من طهران، أنه سيدخل، عبر الأردن، مع المقاومين إلى فلسطين لتحريرها، رضي ملك الأردن أم لم يرض. وليس في الوسع أن يأخذ واحدُنا تخريفاً كهذا على محمل الجد، بالضبط كما هو حمْل المؤتمر السادس لدعم الانتفاضة الفلسطينية في العاصمة الإيرانية، حيث نطق جبريل ما نطق. وذلك ليس تبخيسا من المشاعر الوطنية الصادقة لدى ضيوف المؤتمر والمشاركين فيه والمدعوين إليه، وقد زادوا على الألف، ومنهم ممثلون عن سائر الفصائل والتشكيلات الفلسطينية، وبرلمانيون من بلاد عربية وإسلامية، وإنما لأن منسوب الاستثمار الإيراني الفادح في هذه التظاهرة أعلى مما يمكن احتماله، مع التسليم بأهمية أي جمعٍ، من أجل فلسطين، ولو بمقادير معقولة من التصعيد الكلامي، الفلكلوري المريح. ولا يشحط أيٌّ منا الذئب من ذيله، لو قال البديهيّ المعلوم عن حاجة الفلسطينيين في وطنهم إلى ما يسند ثباتهم هناك، وإلى ما يعينهم على بلوى الاحتلال والحصار، وفي مقدمتهم الغزّيون الذين لا يتذكّرون أن شاشة قطن واحدة وصلت من طهران إلى جريحٍ منهم، بل في ذاكرتهم، وذاكرتنا، أن شيئا من الحرج غشي الملالي هناك، إبّان كانت سفنٌ ومراكبُ أجنبية (وتركية) تتقاطر إلى شواطئ غزة، تحمل المساعدات والإغاثات، والإسناد الإنساني والعاطفي اللازم، فعمد الهلال الأحمر الإيراني إلى تسيير سفينةٍ مماثلة، غير أنها سرعان ما استنكفت عن الإبحار إلى فلسطين، بعد تهديد إسرائيلي متوقع. ومع كل الوجاهة في قول قياديٍّ في "حماس" عن الدعم غير المنسي الذي يسّرته إيران لحركته، فإن البطولة الظاهرة في تسيير سفن التسليح إلى ميناء عدن لإعانة الحوثيين على استباحة اليمن، وارتهانه للطاحونة الإيرانية، لا تذكّرنا بغير تلك السفينة الخائفة، في صيف العام 2010.
أما وأن المؤتمر الإيراني الحاشد سنوي، فذلك يدرجه في تقليدية معهودة، وإنْ يدفعك إلى أن تحضر إلى بالك ما تقترفه إيران في سورية، وفي العراق، وفي اليمن، وما يجوس في خواطر حكامها من مطامع الاستحواذ المعلومة البواعث، فلم يكن ممكنا أن تُرى فلسطين في قاعات هذا المؤتمر من دون أن تتدافع الصور السورية والعراقية واليمنية. أما المؤتمر الآخر عن فلسطين في اسطنبول فلم يكن فيه شيء من المعهود في التقليدية والرتابة الإيرانيتين، وإنْ كسرهما أحمد جبريل قليلا، هذه المرة، بمرجلته الأردنية تلك. وما ضاعف من منسوب الإثارة في المؤتمر الذي استضافته تركيا أنه ووجه باللعن والارتياب والشكوك، لا لشيء إلا ظنا أن القائمين عليه والمشاركين فيه سيدشنون خطوة إلى إلغاء منظمة التحرير واستبدالها بكيان يصنعونه. وزادت اللغة التي استؤنس بها في رمي المؤتمر بما فيه وما ليس فيه أن منسوب الذود فيها عن حياض منظمة التحرير كان فوق العادي، فيما جاء بيان ختام المؤتمر لا يقول غير ما اشتملت عليه اتفاقيات المصالحات الفصائلية الفلسطينية وتفاهماتها ومواسمها، مع "حماس" وغيرها، أي الدعوة إلى إصلاح المنظمة، و"إعادة هيكليتها"، والتسريع في تجديد مؤسساتها ولجنتها التنفيذية التي يقيم عضو فيها، اسمه ياسر عبد ربه، منذ تولى ريتشارد نيكسون رئاسة أميركا، قبل 47 عاما.
أن يجتمع فلسطينيون في الشتات، في تظاهرة سياسية وخطابية واحتفائية في اسطنبول، أمرٌ لا يليق أن يبعث على هذا الاستهجان العجيب، والطفولي البائس، وكأن منظمة التحرير عجلٌ مقدّسٌ، بذاته ولذاته، يريد الأتراك ذبحه، كرمى عين "حماس"، كما أذاع يساريون وحنبليون تقاطروا إلى طهران. وهكذا، تسلى فلسطينيون كثيرون، في مطارح غير قليلة، بالتراشق السخيف بين أنصار مؤتمر في طهران وآخرين أنصار مؤتمر في اسطنبول، أما فلسطين نفسها، فقد كان رئيسها على مبعدة أمتارٍ من مخيمات لاجئين منها تعيسة في لبنان، ولم يجد وقتا لديه لمجاملتهم بزيارةٍ عابرة، ولم يجد أحدا يذكّره بأن منظمة التحرير التي يترأسها قامت قبل احتلال 1967 لتمثيلهم، والعمل على عودتهم ورعاية شؤونهم...