"فلسطينياذا" أو مطوّلة علي العامري
أقرأ قصيدة الشاعر الأردني الفلسطيني، علي العامري (1962)، المطوّلة "فلسطينياذا" (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2024) مرّتين (134 صفحة). الأولى، في جلسةٍ قدّام التلفزيون، أتابع المعجزة البطولية للمقاومة الفلسطينية في مستوطناتٍ وثكناتٍ ومواقع إسرائيليةٍ صباح السبت، الأسوَد عندهم والبهيج عندنا، وكذا المذبحة التي تلتْها، ويقترفُها في أهلنا الغزّيين جيشُ المحتلين. وفي الثانية أقرأها، القصيدة الملحميّة المركّبة، وحدي، وإنْ معي أنفاس علي العامري شاعرا متجدّدا. ... في الأولى، تتناوَب عيناي بين القصيدة والبحلقة في التلفزيون، فألقاني أقرأ: "في وقت الصّفر تماما/ فتحوا النار على جُندٍ/ وقعوا في فخّ ظلالٍ/ واشتبكت نارٌ بالنار/ فدائيون ثمانيةٌ رشقوا المحتلّين بزخّاتِ جحيمٍ/ في فجرٍ منذورٍ لفلسطين. ...". والمقطع يستعيد عملية فدائيين فلسطينيين عبروا نهر الأردن في زمنٍ مضى، غير أن فجر السبت الماضي كان منذورا لفلسطين أيضا، بزخّات المقاومين الباسلين التي رشقوها على تلك الثكنات والمواقع الإسرائيلية فكانت جحيما لهم. ثم أقرأ، والمشهد قدّامي لآثار غارات قصفٍ عدوانيةٍ دمّرت بيوتا في غزّة، ... "الطائراتُ تمرّ فوق رؤوسنا/ وظلالُها العمياء/ تخمش بيتَنا/ كنّا على وشْك الغمام/ وما بكيْنا لحظةً". والمقطع عن عدوان إسرائيلي (علي العامري شاعر، فلا يقول هذا، وإنما أنا من أعرف أنه عدوانٌ إسرائيلي) على بلدةٍ أردنيةٍ في غضون حربٍ سابقة (حزيران؟). لكن الطائرات التي تُغير على ناس قطاع غزّة، وأنا أقرأ القصيدة، ثم وأنا أكتب هذه الكلمات، كانت تخمِش بيوتا هناك.
"في الحرب، قال أبي: احضُنوا الأشجار حين تغيرُ طائرة العدوّ، إذا تعذّر أن تروحوا إلى خندقنا هناك". أقرأ هذا في القصيدة، وأنا أرى حربا إسرائيليةً على فلسطينيين معزولين عزّلا، على الهواء مباشرةً أمامي. وفي الأثناء، أقرأ في المطوّلة، العالية الشعرية، "لم يعُد من خيارٍ لنا غيرُ أرواحنا/ لا طريق سوى الموتِ يأخذُنا خطوةً خطوةً/ ويضيءُ الحياة على أرضنا/ لم يعُد من خيارٍ لنا/ لا طريق سوى النار نعبرُها باتجاه البيوت التي شهدت صرخةً يوم مولد أجدادنا". أصادف على الشاشة تعدادا لشهداء سقطوا نهار اليوم والليلة الماضية، فأسالُ ما إذا كان الشعر يحدِس أن أهلَ غزّة منذورون للموت، وهم المتروكون، منذ سنواتٍ، لاعتداءاتٍ إسرائيليةٍ تتوالى. أنسى محاولتي العثور على جواب، عندما أصادف على الشاشة أطباءَ ومُسعفين هناك يُخبرون عن أطفالٍ قَصفت أعمارَهم طائراتٌ إسرائيليةٌ عمياء (أرجّح أنها ليست عمياء؟) على بيوتٍ وساكنيها، وأقرأ علي العامري في مقطعٍ من مطوّلته الملحميّة يكتب: "كيف تعود حياتي لطبيعتها!/ ودمُ ابني لم ينشَف بين رُكام الدار/ ولم ينشَف دمعي/ لم ينشَف ظلّ الآيات على التابوتِ/ ولم ينشَف طينُ القبر". ولمّا أرى خريطة فلسطين، تنوّعت ألوانُ مناطقها بين ضفّةٍ غربيةٍ وقطاعٍ اسمُه قطاع غزّة وفلسطين أخرى بينهما سمّوها إسرائيل، أقرأ في القصيدة "هذي فلسطينُ الشموسْ/ هذي فلسطينُ الخريطة كلِّها، من زهرة الرّمان حتى نجمةٍ/ هذي خريطُتها على كتب المدارس/ في القلوب". أرى الشاعر، إذن، صحّحَ الخطأ الذي أرى.
في قراءتي الثانية "فلسطينياذا" وحدي، متمهّلا، بصوتٍ مسموع، أتوقّف لحظاتٍ هنا وهناك، وجدتُني لستُ مُفاجأً بالبديع الذي يصنُعه علي العامري هنا، لأنه الشاعر الذي يرعى قصيدتَه بتأنٍّ مُفرط، يخاف عليها من أن تُشبه غيرَها، أو بعض سابقاتها له. تنوّعت قصائدُه في مجموعاته الثلاث السابقة بين قصيرةٍ وقصيرةٍ جدا وغير قصيرة، وتعثُر أيضا لديه على ما كانت ربما أنْبأت بالتي بين أيدينا، فثمّة أنفاسٌ ملحميةٌ وأصواتٌ متناوبةٌ ومشهدياتٌ رعويةٌ واستعاداتٌ من سيرةٍ شخصية، تحضُر في القصيدة المطوّلة التي أقرأ، وكانت قد عوينت في تجربة الشاعر الصديق، التي توبعت منذ كنّا نقرأ قصائد مجموعته الأولى (1993). وقصيدتُه "حجر الحدس" في ثالث مجموعاته (2012)، تبدو فيها سماتُ المطوّلات ذات الخيط الملحمي، لكنه في "فلسطينياذا" يكتبها، مطوّلةً وملحميّةً معا، نسغُها سيرة الفلسطيني في أرضه وبعض شتاته وفي صدّه المعتدين، ويكتبُ فلسطين كما هي كلّها، بلغة تتدافع لتروي وتحكي وتقصّ، والقصّ شرط الملحمة الأول، كما وجود البطولة أيضا. وعلي العامري يرمي المحتلّ بالبديهيّ الكثير عمّ للفسطيني في فلسطين، الحكاية والظلال والأشجار والحجل والبحر والدّحنون والحقول والنجوم و... ، وكل ما يصل حاضرا بماضٍ لا يغيب.
نقرأ "فلسطينياذا" في لحظة البطولة الفلسطينية الراهنة الموشّحة بصمودٍ وعناءٍ غزيريْن. نقرأُها في لحظة غزّة هذه، وفي كلّ زمنٍ فلسطيني.