فقر مخيّلة عربية حيال سورية

25 ديسمبر 2024
+ الخط -

يتردّد المرء قبل أن يتمنى رؤية دور عربي في سورية، نظراً إلى ما يعرفه عن محدودية آفاق معظم المسؤولين العرب ممن كانوا يتسابقون إلى احتضان نظام بشار الأسد حتى الأيام الأخيرة التي سبقت سقوطه الحرّ. وإن كان صحيحاً أن الدول تعمل وفق ما تمليه عليها مصالحها، في المعنى الواسع للمصلحة، لا تلك التجارية النفعية الأنانية المباشرة في عالم جعلته العولمة شديد التأثر أمنياً واقتصادياً وبيئياً بكل ما يحصل في أرجائه، يكون صحيحاً أيضاً أن مصلحة البلدان العربية في هذه المرحلة تكمن في رؤية سورية نقيضة لما كانت عليه أيام الأسد الأب والابن، مدرسة في استغلال القضايا وتحريك الخلايا المسلحة والمتاجرة فيها، ونبعاً للاضطرابات وللأفكار السامة وللكبتاغون. ليست مصلحتها بالضرورة أن تكون سورية ديمقراطية، إنما على الأقل دولة مستقرّة وموحّدة، بلداً "طبيعياً" لا يصدّر إلا صناعاته وزراعته وفنونه، لا أيديولوجيات ولا خلايا إرهابية ولا وصفات للتعذيب ولا خرائط هندسية لأكثر المعتقلات دموية ولا مكابس للجثث وملّاحات لتذويبها. لو كان في البلدان العربية عقول تنظر إلى أبعد من أنفها كما يُقال، لكان الدبلوماسيون العرب سبقوا نظراءهم الأميركيين والفرنسيين والبريطانيين والأتراك والألمان إلى دمشق ومعهم مسؤولون عن تقديم الدعم الاقتصادي (لا القروض) مثلما فعلت قطر عندما قررت حكومتها أن يصطحب وزير الدولة في وزارة الخارجية محمد الخليفي في زيارته دمشق يوم الاثنين فريقاً من "صندوق قطر للتنمية" لدراسة تقديم مساعدات خصوصاً في مجالات الطاقة والنقل الجوي بهدف إعادة تشغيل المطارات السورية. هي قطر التي من حقها أن تذكّر العالم أنها ظلّت البلد الوحيد تقريباً الرافض مدّ يد العون لنظام بشار الأسد في زمن السعي إلى تعويمه واحتضانه عربياً وتركياً وغربياً.
لو كان في مراكز صنع القرار لمعظم العواصم العربية من يفكر لأبعد من الغد، لأيقن حكامها أنّ ترك السوريين غارقين في المأساة التي أورثهم إياها الأسد والروس والإيرانيون وحزب الله والمليشيات الأفغانية والعراقية، سيكون تكراراً للتخلي عن العراق بعد إسقاط الأميركيين نظام صدام حسين، وقد أفسحوا المجال حينذاك لإيران كي تملأ الفراغ، بما أن الطبيعة تكره الفراغ كما هو معروف. في سورية لن تملأ إيران شيئاً لا اليوم ولا غداً، فنفوذها هناك انتهى لحسن الحظ. ليس مطلوباً بأي شكل أن يملأ أيّ كان، لا عربي ولا تركي ولا غربي أيّ شيء في سورية، بل المطلوب أن يُعامَل هذا البلد لمرّة بحسن نية من القريبين منه والبعيدين، بمنظور استراتيجي لا تكتيكي، بدعم اقتصادي من دون مقابل حتى يتوفر استقرار اجتماعي ــ اقتصادي يتيح تفكيراً بأي سورية يريد السوريون وبأي توافقات يمكنهم اجتراحها حول شكل بلدهم ونظامهم السياسي بما أن لا نقاش يمكن إتمامه عن مرحلة انتقالية سورية أو مركزية أو فيدرالية أو علمانية أو تعددية أو تشدد ديني أو نظام برلماني يحكمها أو رئاسي، حين تعيش غالبية السكان في عوز وتفتقد بنية تحتية ومؤسسات دولة تستحق اسمها.
فرضُ الوصاية العربية أو التركية أو الغربية على السوريين هي وصفة لتمديد دور "الساحة" الذي رسمته كل من طهران وتل أبيب في هذا البلد. وحده الدعم الاقتصادي السخي اليوم لسورية، غير المرتبط بأي أجندات سياسية أو طموحات، هو ما يوفر استقراراً نسبياً ضرورياً في مرحلة مؤقتة ستكون حاسمة في مكافأة السوريين على تضحياتهم الهائلة أو التفريط فيها. الدعم العربي الاقتصادي اليوم يمكن أن يكفّر قليلاً عن ذنوب عرب كافؤوا نظام الأسد على جرائمه وتعنته بإعادته إلى جامعة الدول العربية وإلى ذلك "الحضن العربي" بمبادرة خطوة مقابل خطوة الأردنية. فقر مخيلة معظم الحكام العرب تجعلهم يشاهدون إسرائيل تحتل أراضي سورية فيصمتون ظناً منهم أن علاقاتهم مع الأميركيين ومع تل أبيب نفسها من شأنها أن تنجّيهم من الجنون الإسرائيلي غداً أو بعد غد. وهل من مخيلة أفقر من تلك؟