فضيلة رياض سلامة المنسيّة
يُحسَب لحاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة أنه وحّد اللبنانيين في خريف 2019، عن غير قصد. وحّدهم ضد سياساته التي طبقها 30 عاماً في حاكمية البنك المركزي، وضد عجرفته التي اختزلتها عبارته الشهيرة "الليرة بخير" بينما هم يروْن جنى أعمارهم يتبخّر على شكل ودائع منهوبة وانهيار لقيمة العملة الوطنية. وحّدهم بتواطؤه مع السياسيين وتبادل الخدمات وصفقات الفساد معهم. وحّدهم ضد هندساته المالية التي أنتجت، من بين عوامل عديدة، الخراب الهائل الذي سمّاه البنك الدولي في تقريره خريف 2021 أكبر انهيار مالي في العالم "منذ خمسينيات القرن التاسع عشر"، من دون أن ينسى إيراد العبارة الأهم، أنه انهيار "تعمّدته النخبة" الحاكمة في هذا البلد. ... رياض سلامة وحّد اللبنانيين برهة ضد خيارات نقدية اتخذها وكأنّ البلد ملكية عائلية، فترى حسابه المصرفي الخاص وحساب البنك المركزي وكأنهما شيء واحد مثلما تُظهره القضية المعروفة بـ"حساب الاستشارات" أو تهريب سلامة أموالاً بقيمة 42 مليون دولار من المصرف المركزي إلى حسابه الشخصي من خلال محامين متخصّصين في الاستشارات المالية. وحّدهم بملف "أوبتيموم" حين باع مصرف لبنان الشركة التي تحمل هذا الاسم بين 2015 و2018 سندات دين عام ثم قام المصرف بشرائها بأسعار مرتفعة، وهو ما نتجت عنه أرباح بقيمة ثمانية مليارات دولار. وكما تفيدنا أبجدية علم الاقتصاد، ثمانية مليارات ربح هنا تعني ثمانية مليارات خسارة هناك. الـ"هناك" الخاسرة معروفة، هي أموال المودعين والخزينة العامة، أما الـ"هنا" الرابحة فهي، كما تقول تحقيقات القضاء اللبناني والأوروبي التي تلاحق سلامة، "لم تتّضح هويتها بعد". لكن أي قارئ عناوين أخبار في أي صحيفة خلال عقود حاكمية رياض سلامة (1993 ــ 2023)، يدرك حجم تبادل الفساد بين الرجل والسياسيين، كبارهم وصغارهم، وهم بالمئات، ناهيك عن إعلاميين فاسدين ومشاهير وشخصيات عامة ورجال دين وأعمال ومال.
قيل عن حق إن الطائفيّ داخل شخصية اللبناني خبا، في "انتفاضة تشرين" (أكتوبر 2019)، واستفاق الطبقي ــ المواطن. العبارة الشعبوية "كلهم يعني كلهم" كانت تعبيراً بريئاً وصادقاً بالنسبة لمعظم من هتفوا بها عن تطهُّر اللبناني من الطائفية، وإنْ جزئياً ومؤقتاً، فكانت الصرخة تلك تعني، قبل أي شيء آخر، أن الماروني والسني والشيعي والدرزي، يتبرّأ كل منهم، جهاراً نهاراً، من زعماء الموارنة والسنة والشيعة والدروز. حصل ذلك وغيره "بفضل" رياض سلامة. لكن تلك المرحلة انتهت بفشل انتفاضة تشرين، لا بل بقتلها من مليشيات السلطة، فخبا المواطن ــ الطبقي داخل اللبناني واستفاق الطائفي وبدا أكثر توحشاً من ذي قبل. وفي انتفاضاتٍ كتلك التي عرفها اللبنانيون عام 2019، يكون الفشل قاتلاً وبحجم الأمل الموضوع عليها. لم يُنتج قتل الانتفاضة حرباً أهلية، بل استسلاماً عاماً يُخشى أن يكون نهائياً للسلطة. انتهى زمن رياض سلامة ولم تنتهِ السلطة التي كان رمزاً لها من موقعه حاكماً للمصرف المركزي، مموّلاً لها وغطاؤها الدولي أمام المؤسسات المالية العالمية وعواصم كانت بدورها متحمسة لرؤيته رئيساً للجمهورية، هو الماروني الذي، ككل ماروني يعمل في الشأن العام، مرشح تلقائي للرئاسة.
صورة رياض سلامة مقيّد اليدين والأخبار عن انهياره باكياً لدى اعتقاله الأسبوع الماضي، كان يمكن لها أن تكون أكثر من انتقام يريح نفسياً ضحايا جرائمه المالية. كان يمكن أن تكون درساً لسياسيين فاسدين وطائفيين ورادعاً لهم ووعداً بمحاكمتهم ومحاسبتهم. لكن هيهات، شركاء رياض سلامة سرقوا منه فضيلته، أي توحيده اللبنانيين ضد شخصه وسيرته المهنية والسياسية، فحوّلوا اعتقاله من قبل القضاء اللبناني إلى مادة إضافية لتقسيم اللبنانيين عبر إطلاق عدد من الفرضيات المؤامراتية لاعتقاله. من بين ما قيل على هامش الحدث إن رياض سلامة ربما يكون قد سعى جاهداً لكي يعتقله القضاء اللبناني لكي ينجو من المحاكمة الحقيقية في فرنسا أو ألمانيا مثلاً. وهذا للأسف قد يكون صحيحاً تماماً.