فشل عنوانه المسألة الكردية

23 نوفمبر 2022
+ الخط -

مع ارتفاع منسوب التوتر في مربع الوجود التاريخي للكرد في جغرافيا منطقة الشرق الأوسط بين إيران وتركيا والعراق وسورية، تعود المسألة الكردية إلى تصدّر عناوين الأخبار، لتعكس من جهة استمراراً لمشكلة مركّبة عمرها من عمر الدول الأربع التي ظهرت بشكلها الحالي بعد الحرب العالمية الأولى (مع أن إيران وتركيا تعدّان، بشكل ما، استمراراً لدول أخرى، القاجارية والعثمانية على التوالي)، ولتبرز من جهة ثانية فشلاً متعدّد الأوجه لهذه الدول في التعامل مع هذه المسألة من بين مسائل أخرى كثيرة. إذ تصاعدت، في الفترة الأخيرة، وتيرة الهجمات التي تشنها تركيا وإيران على تنظيمات وقوى كردية معارضة، تتخذ من العراق وسورية ملجأين لها، مستفيدة من فشل الدولة في البلدين، وعجزها عن بسط سيطرتها على كامل أراضيها. وفيما تعاني الدولتان العربيتان اللتان تتعرّض أراضيهما للهجوم من فشل عميق متصل بسياسات الحكم فيها (governance) وما استتبعه من نشوء سلطات موازية لسلطة الدولة، ومن تشكيك جزء معتبر من مواطنيها بشرعيتها، تعاني إيران وتركيا من فشل من نوع آخر، يتمثل في عجز الدولة فيها، رغم أنها تملك، مقارنة بالعراق وسورية، سلطاتٍ مركزية أقوى، وشرعية حكم أكبر، وتقاليد مؤسّساتية أعرق، عن إيجاد حل لمشكلة داخلية ممتدّة، وتعمد، بدلاً من ذلك، إلى تصديرها للخارج، لتعود بعد ذلك لملاحقتها هناك بدعوى انعكاسها على أوضاعها الداخلية.

لا يجوز طبعاً أن نبسّط مسألة معقدة مثل المسألة الكردية، أو أن نختزلها بطريقة تعوق فهمها على النحو الصحيح، لكن المرء يمكنه أن يخرج مع ذلك بملاحظات عن المواجهات التي جرت أخيراً، ووضعت القضية الكردية من جديد في دائرة الاهتمامين، الإقليمي والدولي. إذ تعاني إيران وتركيا من أزمات وضغوط داخلية شديدة، يربطها كثيرون بالتصعيد الجاري وراء الحدود. ففي إيران يواجه النظام حركة احتجاجات مستمرّة تعد الأطول منذ الاحتجاجات التي اندلعت أواخر عام 1977 وانتهت بعد 16 شهراً تقريباً بإطاحة نظام الشاه. ورغم أن هذه الاحتجاجات لا تتركّز في منطقة واحدة، ولا ترتبط بالإثنية التي تنحدر منها الفتاة الكردية مهسا أميني التي قضت تحت التعذيب، بسبب عدم ارتدائها الحجاب "بالشكل المناسب"، إلا أن السلطات الإيرانية تسعى، بوضوح، إلى إبراز مناطقية الاحتجاجات، في محاولة لتصويرها محصورة إثنياً بالأكراد، وبما يحول دون انضمام مناطق وإثنيات أخرى إليها، رغم أن القضية باتت بالنسبة لملايين الإيرانيين من مختلف المناطق والإثنيات، متصلة بقضايا الحرية وحقوق الإنسان، خصوصاً المرأة، وطبيعة النظام الحاكم. لهذا السبب تحديداً، تعمد السلطات الإيرانية إلى تصدير مشكلتها إلى الخارج في مسعى لتأكيد زعمها بوجود مؤامرة خارجية تستهدف النظام، وأن الكرد هم أدواتها، فتكثّف وفقاً لذلك هجماتها على مناطق وجود أحزاب معارضة كردية إيرانية في كردستان العراق، والتي من المؤكّد أنها وجدت في قضية الفتاة أميني فرصة لتصعيد مقاومتها ضد النظام.

تواجه تركيا مشكلة مشابهة، وإن كانت أكثر تعقيداً، بسبب تشابكات الوضع السوري، ووجود مخاوف حقيقية لدى أنقرة من انعكاسات الدعم الأميركي لتيارات وقوى كردية سورية مرتبطة بحزب العمال الكردستاتي على أوضاعها الداخلية وأمنها القومي. لكن بعضهم يربط التصعيد الأخير في سورية، والذي جاء على خلفية العملية الإرهابية التي وقعت في إسطنبول في 13 الشهر الجاري (نوفمبر/ تشرين الثاني) بالانتخابات الصعبة التي يواجها حزب العدالة والتنمية الحاكم في يونيو/ حزيران المقبل، فالحزب (الحاكم) يعاني في السنوات الأخيرة من انخفاض كبير في شعبيته، تجلى بوضوح في خسارته بلديات المدن الكبرى في انتخابات 2019، خصوصاً إسطنبول وأنقرة، والتي كانت السيطرة عليها أحد أهم أسباب وصوله إلى حكم تركيا واستمراراه فيها عقدين متواصلين. وعليه، يمكن أن تحوّل عملية عسكرية في سورية اهتمام الناخب التركي بعيداً عن الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها مع وصول نسبة التضخم إلى 80% وفقدان العملة التركية نحو 90% من قيمتها مقابل الدولار في السنوات الأخيرة.

في كل الأحوال، سوف تبقى المسألة الكردية شاهداً على فشل الدول الأربع، بدرجات متفاوتة طبعاً، في الحكم والإدارة والإدماج وبناء دولة المواطنة، ولن يفيدها في التعمية على فشلها محاولات تصدير مشكلاتها إلى الخارج، أو محاربة طواحين هواء، بزعم وجود مؤامرات خارجية تستهدفها.