فرنسا وغضب المهمّشين

11 يوليو 2023
+ الخط -

قُتل الشاب نائل يوم الثلاثاء 27 يونيو/ حزيران في باريس، فشهدت فرنسا احتجاجات عارمة عمّت جميع ربوعها، بما في ذلك مدن في وسطها، كانت تعدّ هادئة مطمئنة وبعيدة عن كل مخاطر الشغب أو الفوضى، لكنها هذه المرّة لم تفلت من موجة تسونامي التي ضربت تقريباً كل المناطق الفرنسية، ما يظهر للعيان أن ما جرى ليس مجرّد ردّة فعل على مقتل شاب بطريقة عنصرية مقيتة، لكنها تلك القشة التي قصمت ظهر بعير فرنسا التهميش والعنصرية والإسلاموفوبيا والفوارق الاجتماعية، وهي عناصر كامنة في بعض المجتمع الفرنسي شعبا وحكومة، رغم محاولة الأخيرة التستر عليها، ورفض الاعتراف بوجودها، وهذا أصل الداء وسبب العلة ودافع المرض، إذ كيف يوصف دواء لسقم لا يُعترف به؟
في دراسة نشرها المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية INSEE في 10 يناير/ كانون الثاني الماضي، يوجد في فرنسا 1.4 مليون شاب، ليس لهم أية وظيفة ولا يتابعون تدريبا أو دراسة أو تعليما، هم الذين ينتمون لشريحة ما يسمى "Not in Education, Employment or Training :NEET"، ويمثلون 12.8% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عامًا. ولكن إذا دققنا في التحقق من أماكن وجودهم، فإن الأغلبية الساحقة من هؤلاء تنتمي إلى أسر فقيرة من أبناء المهاجرين العرب والمسلمين والأفارقة، وتعيش في الأحياء الشعبية الهامشية التي لم تحظ بأية مقاربة سياسية ناجحة وناجعة، تسمح لهم بالخروج من مأزقهم الاجتماعي الذي قُدّر لهم العيش فيه من دون أمل للخروج منه، وهذا ما جعل كثيرين منهم بمثابة قنابل موقوتة، يمكن ان تتفجر في أي زمان ومكان، فهم يعتقدون أن لا مستقبل لهم، وليس لديهم أي شيء يخافون خسرانه. ومن ثمّة هم يقتنصون أول فرصة لإثبات الذات والوجود، ولو كانت بطريقة مريبة وشنيعة.

آن لفرنسا أن تراجع ميثاقها السياسي والاجتماعي

اعتمدت فرنسا، في تعاملها مع هذه الفئة من المجتمع، على ركيزتين، أولاهما مقاربة أمنية ترى في هؤلاء نوعاً من الدهماء بل الغوغاء الذين لا يمكن لهم أن يندمجوا إلا قسرا، وترى فيهم عالة على المجتمع. وبالتالي، لا يصلح معهم إلا التعامل بعنف وقوة لفرض سيطرة الجمهورية الفرنسية على كامل ترابها، ومنع ما تسمى الانفصالية الإسلامية التي تحاول مد سيطرتها على هذه الأحياء الشعبية، وترى في مظاهر التديّن الإسلامي نوع من رفض الاندماج، بله الاستيعاب الذي يطالب به كثيرون من أوساط اليمين واليمين المتطرّف. ولتنفيذ هذا المقصد، أنيطت المهمة بالشرطة، بشتى فرقها المختصّة والمدرّبة من دون إعطائها الحد الأدنى للتعريف بالهوية المزدوجة لهاته الفئة، إذ إن فرنسا الدولة العلمانية ذات التاريخ والحضارة اليهودية المسيحية لا زالت ترفض الاعتراف بالتنوّع الثقافي والديني داخلها، وتعتبرها طائفية مقيتة، يجب نبذها والقضاء عليها وعلى مظاهرها، وهذا ما يتمثل في بعض القوانين التي سطّرت من أجل ذلك. أما ثاني الركيزتين فهي مقاربة اجتماعية لم تؤت أكلها، ولم تسمن ولم تغن من جوع، إذ لا يروم هدفها الارتقاء بأوضاع هذه الفئة في مجال التعليم والدراسة أو التكوين والشغل، لتمكينها من الصعود في السلم الاجتماعي، بل تبغي شراء السلم الاجتماعي لا غير، وتهدف إلى تجنّب أعمال الشغب والعنف والفوضى التي رأيناها مع الأحداث الأخيرة في فرنسا، والتي أظهرت أنها نتيجة تراكمات سياسات اقتصادية ظالمة وغير عادلة.
زادت الفوارق الاجتماعية حدة وأبناء المهاجرين الذين رأوا آباءهم يعانون في صمت وجدوا أنفسهم يعانون المعاناة نفسها، بل أكثر، لكن إذا كان الآباء صبروا لأنهم خرجوا من ظلم الاستعمار إلى ظلم الاستعباد الاقتصادي، فإنّ الأبناء لم ولن يصبروا، لأنهم فرنسيون، ويومنون بأنهم جزء من هذا البلد، رغم أنف الكارهين والحاقدين والعنصريين.
ختاماً، لم نجد في تعليق على حوادث العنف التي عرفتها فرنسا، أخيرا، واستفحال ظاهرة العنف البوليسي ضد المتظاهرين، ما جعل فرنسا محل أنظار مجلس حقوق الإنسان وجمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان، أحسن مما ذكره الكاتب الفرنسي فرنسوا بورغا: "هناك فئتان من مثيري الحرائق في فرنسا. هناك من أشعلوا النار في الأيام الأخيرة في الممتلكات العامة كالحافلات والمدارس. ثم هناك الذين أشعلوا النار لعقود في أغلى ما يشكل الدعامة السياسية للوطن. كلاهما مستهجن تماماً، لكن ليس من المؤكد أنّ أولاهما هي الأخطر". وعليه، يمكن أن نقول إنه آن لفرنسا أن تراجع ميثاقها السياسي والاجتماعي، وحان لها أن تطبق باجتهاد وتجديد ما كتبه واحد من أشهر كتابها، جان جاك روسّو في كتابه "العقد الاجتماعي"، والذي أوضح فيه طرق حلّ مشكلات المجتمع.

69325256-4F5A-4368-9A3B-FD48F176325F
69325256-4F5A-4368-9A3B-FD48F176325F
عمر المرابط
باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
عمر المرابط