فرنسا... الهجرة والانتخابات
ذات يوم، رفع الرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولا ساركوزي، شعار "هجرة صفر". وكان يهدف منه إلى منع تدفّق الأجانب الباحثين عن العمل، عندما يفوز في الانتخابات الرئاسية. ولكنّه حين وصل إلى قصر الإليزيه، لم يفلح، وبقي الشعار حاضراً في المزاد السياسي، ينفخ فيه اليمين بكامل طاقته، بالتزامن مع كلّ استحقاق انتخابي، حتّى تولّدت منه جملة من القضايا تتخصّص بالعنصرية والإسلاموفوبيا. وعلى هذا، أضحت المسألة شأناً بالغ التعقيد، تدور من حوله حياةٌ سياسيةٌ كاملة، وتتفرّع منه وسائل إعلام ورأي عام، وتتداخل معه عديد من السياسات المحلّية، والنزاعات البعيدة جغرافياً، وخاصّة في الضفّة الأخرى من البحر الأبيض المتوسّط. والجدير بالاهتمام نجاح استثمار اليمين في هذه القضية، التي برع من خلالها في تجييش الناقمين على سياسات الدولة، بسبب فشلها في حلّ مشكلات الاقتصاد والأمن، والصحّة والتعليم، وتطوير الخدمات والمواصلات، بما يتناسب مع تزايد عدد السكان.
مع مرور الوقت، أدّى التوظيف السياسي الجائر للهجرة، وما يتبعه من تداعيات سلبية، إلى تغذية توتّرات ذات طبيعة اجتماعية وسياسية، كما هو حاصل اليوم، بين الجاليتين، العربية الإسلامية واليهودية. وقد تبيّن خلال حملتَي الانتخابات الأوروبية والتشريعية مدى استغلال اليمين المُتطرّف التوتّر بينهما، بسبب حرب إسرائيل على غزّة. ومن الواضح أنّ ما يهمّه من تأجيج الموقف كسب أصوات انتخابية توصله إلى الحكم، من دون حساب النتائج المترتّبة من الدعاية السلبية ضدّ العرب والمسلمين، وتأثيرها في مستقبل فرنسا، التي تشكّل الهجرة قيمةً مضافةً لها. وامتازت الأيام العشرة السابقة للانتخابات التشريعية المقرّرة غداً، بحملة إعلامية شرسة ضدّ الجالية العربية الإسلامية، بعد الكشف عن اغتصاب فتاة يهودية قاصر، من شابَّين في عمرها، ورغم أنّ السلطات الرسمية لم تكشف، لأسبابٍ قانونية، عن هُويّة الفاعلين، فإنّ اليمين المُتطرّف، والإعلام المؤيّد له، تعامل مع الحادثة على أن الشابَّين من أصول عربية، وربطها بهجمات 7 أكتوبر (2023)، وما أحاط بها من اتهامات باغتصاب مقاتلي حركة حماس نساءً يهوديات. ونُسِبَ فعل الاغتصاب الجنسي إلى التربية الإسلامية، كما أصابت الاتهامات أحزاب المعارضة اليسارية في ائتلاف الجبهة الشعبية الجديدة، وخاصّة حزب فرنسا الأبية، الذي يتزعّمه المُرشّح الرئاسي السابق جان لوك ميلانشون. وسبب ذلك أنّ الحزب كان أول المندّدين بالمجازر الإسرائيلية في غزّة، وقاد رأياً عامّاً يفنّد الدعاية الإسرائيلية، وسجّل موقفاً تضامنياً برفع العلم الفلسطيني داخل البرلمان، وفازت في لائحته الأوروبية الحقوقيةُ الفلسطينيةُ ريما حسن، التي تعرّضت لهجماتٍ سياسيةٍ شرسة، بسبب تصريحاتها المدافعة عن المقاومة في غزّة.
تتبخّر الشعارات في نهاية المناسبات الانتخابية، ويفرض الواقع نفسه، وتظلّ جموع المهاجرين تتدفّق بصورة شرعية، وبأخرى غير شرعية، وكلما ازدات الأوضاع سوءاً في بلدان الجنوب، ارتفع عدد مرشحّي الهجرة، الذين يبحثون عن حلول لأوضاعهم الاقتصادية المأزومة في أوروبا، وتبقى فرنسا وجهةً مثاليةً لمواطني بلدان الفرنكوفونية من المغرب العربي والقارّة السمراء، بسبب عاملي اللغة والتاريخ المشتركَين. وتقابل الهجرة المرفوضة أخرى تلقى قبولاً وتشجيعاً، وهي التي تتمثّل في اختصاصات الطبابة والتمريض، واليد العاملة المؤهلة في البناء والخدمات التقنية، وقد عملت بعض الدول الأوروبية على وضع نظام يحارب الأولى، ويشجّع الثانية، وهو لا يخلو من نزعة انتهازية تقوم على تلبية حاجاتها، على حساب البلدان الأخرى، التي تستنزف مواردها البشرية المُنتِجة، مثلما نهبت ثرواتها الطبيعية في السابق. ومهما كانت نتائج الانتخابات التشريعية، سوف تبقى المشكلة من دون حلّ جذري، ما لم تُنزع من السياق السياسي والتوظيف الانتخابي، ويجري التعامل الجادّ مع أسبابها.