فرص السلام المهدرة في السودان
أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الانسانية أن الصراع في السودان أدّى إلى أكبر أزمة نزوح على وجه الأرض. أجبرت حرب السودان التي تدخل شهرها العاشر أكثر من سبعة ملايين سوداني على النزوح، داخلياً وخارجياً في أوضاع شديدة السوء، مع انهيار شبه كامل للمنظومة الصحية، وتفشّي الأمراض الوبائية في كثير من ولايات السودان.
ظهرت خلال الشهور العشرة (منذ إبريل/ نيسان 2023) فرص قليلة كان يمكن استغلالها لوقف الحرب، لكنها ضاعت بين عدم الجدّية والتردّد. حمل منبر جدّة التفاوضي فرصة جيّدة في الأسابيع الأولى للحرب. واستبشر كثيرون بالهدن الإنسانية الموقّعة، لكن ما كان يجري الاتفاق عليه في جدّة ظل فقط في جدّة. لم يلتزم الطرفان المتحاربان بوقف إطلاق النار، وتبادلا الاتهامات بشأن المسؤولية عن خرق الهدن المتكرّر. كما امتنعت قوات الدعم السريع عن إخلاء المنازل والأحياء السكنية التي احتلتها وطردت أصحابها منها.
شكّل ظهور تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدّم) بادرة أمل لاختراقٍ يحقّقه الجسم المدني الجديد، وبادر رئيس التنسيقية، عبد الله حمدوك، بتوجيه دعوتين إلى قائدي الجيش (عبد الفتاح البرهان) وقوات الدعم السريع (محمد حمدان دقلو) للتباحث من أجل وقف الحرب، فبادر الأخير بقبول الدعوة، والتوقيع على إعلان سياسي، بينما تعامل معها قائد الجيش فرصةً للتخلّص من خصومه المدنيين، فوجّه اليهم إلهجوم، متهماً إياهم بأن اللقاء والتوقيع دليل تعاون مع المليشيا ضد الجيش. وتصاعد عداء السلطة العسكرية حتى حظر حاكم ولاية نهر النيل عمل تنسيقيات الحرية والتغيير ولجان المقاومة ولجان الخدمات والتغيير في ولايته (لجان سياسية وشعبية شبابية مرتبطة بالثورة السودانية في ديسمبر/ كانون الأول 2018)، واستبدلها بلجان الاستنفار، لتنظيم عملية توزيع السلاح على المواطنين.
في الوقت نفسه، استمرّ الدعم السريع في توسيع مساحة سيطرته، ويحاول غزو مدنٍ جديدة، مع دخول الحرب في عدّة مناطق الى الاستقطاب العرقي وعمليات الإبادة. وبعد مذابح ارتكبتها قوات الدعم السريع في اقليم دارفور ضد عدّة مكونات إثنية، بدأت هذه المكوّنات في الانتقام من قبائل عربية في مناطق أخرى من الإقليم المنكوب. تتّجه الحرب في عدة مدن في إقليم دارفور إلى الصراع القبلي الصريح، متجاوزة الانتماءات إلى الجيش السوداني أو قوات الدعم السريع أو جيش الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال/ جناح القائد عبد العزيز الحلو. وبينما يتوعد جنود "الدعم السريع" شمال السودان بالغزو والنهب، وتنتشر مقاطع الفيديو القصيرة مهدّدة بحرق نخيل الشمال، تتواصل النفرة الشعبية المسلحة، وهي نفرةٌ يحاول الجيش السيطرة عليها، لتكون تحت قيادته، بينما تطالب أصواتٌ عديدةٌ من تنظيم الحركة الاسلامية السودانية ومن خارجه بأن تكون النفرة ذاتها تمرّداً على السلطة العسكرية الحاكمة، وأن يحصل المواطنون على السلاح من مخازن الجيش عنوة! وهي مطالبة شديدة الخطورة في بلادٍ توشك على الانهيار الكامل.
إذن، لا جديد هناك في السودان. المعاناة والفرص المهدرة. جولة لوزير الخارجية الأميركية في المنطقة، وبداية عمل مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة الجديد بعد طرد السلطات العسكرية المبعوث السابق، وإنهاء عمل بعثة الأمم المتحدة، واتهامها بتحريض قائد "الدعم السريع" على الحرب! وهو اتهام من جملة اتهامات السلطة العسكرية في السودان أغلب دول الجوار والإقليم والمؤسّسات الدولية والمجتمع الدولي والأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدني بالتحالف مع قوات الدعم السريع!
ستمرّ سريعاً الأسابيع القليلة التي تفصل حرب السودان عن إكمال عامها الأول. وبعد الهجوم الذي شنّه قائد الجيش على القوى المدنية، لا يعلم أحدٌ بدقّة ما إذا كان لقاء البرهان – حميدتي، المقترح من "الإيقاد" في جيبوتي ما زال مطروحاً أم لا، فبعد اعتذار قائد "الدعم السريع" عن اللقاء المحدّد سابقاً، ولقاء رئيس "تقدّم" عبد الله حمدوك بالرئيس الجيبوتي، إسماعيل عمر جيلة، تراجع الحديث عن اللقاء المباشر بين الجنراليْن. بالرغم من أن كيانات دولية ما زالت تحاول الدفع لتحقيق اللقاء بحضور مدني يؤسّس لوقف القتال وعملية تسليم السلطة للقوى المدنية. لكن مع تمدّد قوات الدعم السريع وهجومها على مدن آمنة، وتواصل انتهاكاتها في مناطق سيطرتها، واستمرار تجييش المواطنين وتسليحهم للدفاع عن أنفسهم، ومناورات السلطة العسكرية، لا يظهر أن صوت البنادق سيصمت قريباً في السودان.