فرصة الإصلاح الديمقراطي في الأردن وتحدّياته
للمرّة الأولى منذ عقود، يحدُث في الأردن قرار حاسم معلن من مؤسسات القرار، معزّزاً بتعديلاتٍ جوهريةٍ على قوانين الانتخاب والأحزاب، بتكريس دور الأحزاب السياسية في مجلس النواب (عبر رفع نسبة المقاعدة الحزبية خلال ثلاث دورات برلمانية إلى 65%، من خلال القائمة الوطنية الحزبية، فضلاً عن دوائر المحافظات التي لا تمنع الأحزاب من ممارسة العمل الحزبي).
من الطبيعي أن تكون هنالك شكوك وهواجس لدى شريحة اجتماعية واسعة من المواطنين والسياسيين بعدم جدّية تلك الإصلاحات أو الخشية من التراجع عنها، فلطالما كانت هنالك خطوات أو توجهات لم تكتمل في مسار الإصلاح السياسي، لكن هذه المرّة لم يعد بالإمكان التراجع بعد إقرار قوانين وتشريعات وسياسات وتغييرات وتعديلات في المناهج المدرسية (تدفع نحو تعزيز الثقافة الحزبية والديمقراطية)، وفي الجامعات (مع قرارات مجلس التعليم العالي والتوجه نحو نظام لممارسة العمل الحزبي في الجامعات)، فضلاً عن "ورشة العمل" الكبيرة التي انطلقت في البلاد في عمليات التوعية والتدريب التي تقوم بها مؤسّسات المجتمع المدني، في سبيل تعبيد الطريق وبناء الروافع المطلوبة لإنجاز المهمة المكثّفة في الانتقال نحو العمل الحزبي.
في المقابل، لا يمكن إنكار أنّ الحالة الحزبية تراجعت بصورة قاتمة خلال العقود الأخيرة، وبالرغم من وجود أكثر من خمسين حزباً، فإنّ أحزابا معدودة جداً قادرة على المنافسة القوية في الانتخابات النيابية والمحلية الأخرى، فيما ما زالت غالبية الأحزاب أشبه بدكاكين صغيرة لا تصل دائرة تأثيرها لأكثر من عشرات الأشخاص في أحسن الأحوال (نتيجة توصلت إليها دراسة ميدانية سيتم إشهار نتائجها قريباً أجراها معهد السياسة والمجتمع خلال الشهور الماضية).
التحدّي الحقيقي يتمثل بإقناع المواطنين وجيل الشباب بمصداقية الدولة وجدّيتها في تطوير الحياة الحزبية، وانتهاء عهد محاسبة الناس على الانتماء الحزبي وتخويف الناس من الأحزاب السياسية، فهنالك جدار كبير وحاجز نفسي وثقافي - مجتمعي تشكل خلال العقود الماضية، بسبب السياسات الرسمية، يتطلب جهوداً وأداوت متعدّدة لهدمه، وهي خطواتٌ بدأت بالفعل من خلال لقاءات وورشات عمل ومؤتمرات يشارك فيها مسؤولون تسير جميعها نحو تجفيف هذه المخاوف وتعزيز الأمل بالتغيير المطلوب.
كأنّنا في صراع بين تكوينين وهويتين، وهي حالةٌ عزّزها خطاب يميني يحذّر من أنّ الأحزاب هي بديل للعشائرية الأردنية
على الصعيد الاجتماعي - الثقافي أيضاً تبرز مشكلة أن الثقافة الاجتماعية تهشّمت سياسياً وثقافياً خلال العقود الأخيرة، وباتت الهويات الفرعية والجهوية أقرب إلى نسبة كبيرة من المواطنين، أو هنالك فصل كامل بين الانتماءين السياسي والحزبي من جهة، والخلفيات الاجتماعية من جهةٍ ثانية، وكأنّنا في صراع بين تكوينين وهويتين، وهي حالةٌ عزّزها خطاب يميني يحذّر من أنّ الأحزاب هي بديل للعشائرية الأردنية، بالرغم من أنّ البنية العشائرية - الاجتماعية كانت سنداً ورافعة للعمل السياسي، خلال عقود سابقة، فلا يتناقض وجود شخصٍ في حزب معين مع انتمائه لعشيرته أو مدينته أو مكانه، إنما ما حدث مع غياب العمل الحزبي والسياسي عقوداً متتالية هو تكريس الثقافات الفرعية بوصفها رافعة العمل السياسي، وهو أمرٌ سيتبدّد مع تطور الحالة الحزبية وبناء تقاليد سياسية جديدة.
التحدي الآخر والحلقة الأكثر أهميةً تتمثل بالأحزاب نفسها، ومدى القدرة على بناء أحزاب فاعلة وقوية، ذات عمل مؤسسي، وليست شخصية، تكون قادرةً على تقديم خطاب سياسي وبرامج إصلاحية مقنعة للشارع، قادرة على تسويق أفكارها وترويجها، وتمتلك قيادت تحظى بالمصداقية والقبول في الشارع، وهو أمرٌ أصبحت الأحزاب الفاعلة، والأخرى قيد التشكّل، على وعيٍ به وبضرورة التطوير والتجديد في الخطاب والأدوات والأساليب المتّبعة في الاستقطاب والدعاية والعمل الجماهيري.
هنا، تحديداً، من الضروري الإشارة إلى ما أحدثه التطور التكنولوجي من تطوّرات وتحولات بنيوية كبيرة في المعادلات السياسية، بخاصة في مجال الاتصال السياسي، وفي الحملات الانتخابية والإعلامية، وما وصلت إليه مؤسّسات عديدة معنية بهذا الأمر في العالم المتقدّم ديمقراطياً وتقنياً، من استخدام لقواعد البيانات الكبرى والذكاء الاصطناعي في تطوير استراتيجيات الاتصال الجماهيري والحملات الانتخابية.
أعادت هذه الثورة المعلوماتية الاتصالية تشكيل المجال العام في العالم العربي، ووعي الجماهير والتعامل معهم. وعلى الرغم من أنّ السياسات في العالم العربي، ومنها الأردن، ما زالت تخضع للديناميكيات التقليدية، فإنّ حجم الاستخدام الهائل مجتمعياً اليوم للعالم الرقمي من الضروري أن توظّفه الأحزاب السياسية في تطوير (وتأهيل) خطابها وأدواتها وأساليبها في العلاقة مع الشارع.
الفرصة السانحة الحالية مهمة لتجنب الوقوع في حبال الأزمة السياسية والاستسلام لفكرة عدم جدوى الإصلاح، فالنتيجة البديلة ستكون كارثية
الأحزاب السياسية القوية الفاعلة هي حجر الأساس في تطوير الحياة الديمقراطية، وإذا كانت هنالك خشية مشروعة من نخب سياسية من أنّ هنالك تكاثراً لمشروعات تأسيس الأحزاب، أو الخشية، المشروعة، من "هندسة حزبية" مفترضة، فإنّ صندوق الانتخابات والاتصال الجماهيري سيكون المحكّ الحقيقي الذي سيفرز القوي من الضعيف، ويعيد ترتيب المشهد السياسي بصورة أكثر فعالية، وقد كانت هنالك حالات شبيهة في تجارب تحوّل ديمقراطي أخرى، مثل إسبانيا في منتصف السبعينيات.
لا تقل عما سبق فجوة تمويل الأحزاب السياسية، فمثل هذه المؤسسات السياسية المحترفة تحتاج، لكي تنطلق وتؤسّس وجوداً اجتماعياً لها، موازنات وقدرات مالية وتفريغ كوادر حزبية لهذا العمل، وهي فجوة يمكن أن تردم مع تشكل تقاليد سياسية جديدة، تقوم على الربط بين المصالح الاقتصادية للفئات الاجتماعية المختلفة والأحزاب التي ستبدأ تؤثر فعلياً في عملية التشريع ورسم السياسات، مع بروز كتل حزبية صلبة في مجلس النواب، ما يدفع رجال الأعمال والقطاع الخاص والطبقات المختلفة إلى الالتفاف حول الأحزاب التي تمثلها في المجلس، ولاحقاً في الحكومة.
ما زال مواطنون وسياسيون كثيرون يشكون ويشكّكون في إمكانية حدوث أو إحداث مثل هذه التحولات، لكن عجلات المشروع الجديد بدأت تتحرّك، والاتجاه أكثر وضوحاً، ولا نتوقع أن تتغير ديناميكيات الوضع الراهن بصورة مفاجئة، فهنالك محددات وعوائق ورؤى متضاربة لكيفية تحقيق ذلك. وما زالت هواجس عميقة لدى مؤسّسات القرار تتخوف من الأحزاب السياسية. مع ذلك، الفرصة السانحة الحالية مهمة لتجنب الوقوع في حبال الأزمة السياسية والاستسلام لفكرة عدم جدوى الإصلاح، فالنتيجة البديلة ستكون كارثية.