فراشةٌ مقدسيةٌ تُحدِث عاصفةً مدارية
أسمعت رصاصات المسدّس الشخصي للفدائي الشاب خيري علقم كلّ من في أذنه صمم، وبلغ رجع دويّها الهائل رقعةً أوسع من مساحة بيت المقدس، وأبعد من حدود فلسطين التاريخية، ليس لأنّ عدد قتلى المستوطنين في هذه الواقعة المشهودة فاق أعداد من قتلوا في أي عملية فردية سابقة، ولا لأنّ مجرياتها السريعة حدثت في حي استيطاني من ضواحي العاصمة "الأبدية الموحّدة" بحسب الوهم الإسرائيلي، ولا كذلك لأنّها العملية الفدائية الأولى الكبيرة في عهد الحكومة الفاشية المتغطرسة، بل لأهمية توقيت هذا الفعل الانتقامي بعد يوم فقط من ارتكاب قوات الاحتلال مجزرة جنين، وتقديم الوزير الجنائي إيتمار بن غفير تهنئته القلبية للجنود القتلة.
كانت الحالة الوطنية الفلسطينية تحت وطأة شعورٍ ثقيلٍ بالخذلان من الجميع تجاه الجميع، ناهيك عن النسء والترك المقيم في النفوس الملتاعة منذ عقودٍ طوال، وربما الحسّ بالعجز وقلة الحيلة أمام هذه المقتلة اليومية من دون ردّ، فجاء الفتى، قل الأسد الهصور خيري علقم، ليردّ الصاع صاعاً وأثقل، ويجلو عن القلوب المتعبة بعض ما تراكم عليها من همّ وغمّ، بعد أن رأت بأم العين شاباً بلغ الحلم للتوّ، يلبّي النداء المكتوم في الصدور، يقتصّ من العدو، ويحقّق عدالة الانتقام رطلاً برطل، في واقعةٍ رفعت المعنويات، أبهجت النفوس، وشفت الصدور المحتقنة بالحزن، بعد أن بلغت القلوب الحناجر.
ولعلّ المسيرات الليلية العفوية، التي عمّت المدن والبلدات والمخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، إثر تأكّد الناس الصابرين من نجاح العملية الفدائية المظفّرة، هي الدليل الذي لا يحتاج إثباتا، أن شعب خيري علقم قد تنفّس الصعداء بعد لأيٍ شديد، شُفي من اليأس، رُدّت إليه الروح، وهو برى فتىً من فتيانه الميامين يُطلع الشمس بعد المغيب، بفتح كوّة في الجدار السميك، ويقدّم النموذج الملهم لبني قومه كيف يكون الفعل في الزمان الملائم والمكان المناسب، متجاوزاً الخيط الرفيع الفاصل بين الحياة والموت، ومتجاوزاً أيضاً عجز الفصائل المنهمكة في رفع راياتها في مواكب تشييع الشهداء، ومباركة العمليات، وتدبيج الكلام الذي لا يُسمن وإن كان يُطعمها الفتات.
وأحسب أن عملية القدس، التي لن تُمحى من الذاكرة إلى أجل طويل، سوف تُدوّن في سجل الكفاح ضد الاحتلال والاستيطان، على أنها رفّة جناح فراشة مقدسية أحدثت عاصفة مدارية، وأن أثرها أوقع زلزالاً سياسياً كبيراً له ارتداداتٌ عديدة، من بينها انبثاق أفقٍ سياسي، يُفضي إلى فجرٍ فلسطينيٍّ جديد، وفتح سجال داخلي إسرائيلي مديد حول عبثية التمادي في القمع، وتداعيات الإفراط في استخدام القوة العمياء، وذلك بصرف النظر عمّا قد يقوم به الاحتلال من عربداتٍ متوقّعة، وما سوف يمارسه من صلفٍ لا يجيب عن السؤال الأوليّ الدائم: ماذا بعد بحقّ السماء، ما العمل مع ملايين شعبٍ يقاوم بكل أشكال المقاومة وينشد الحرية والخلاص؟
على المدى القصير، ستشد الأبصار إجراءات القمع والترهيب وكل الانتهاكات المرتقبة من حكومة نتنياهو وبن غفير وسموترتش، لترضية المستوطنين والمجانين الذين استولوا على المصحّة، إلا أنه بعد أن تخمد نار الذئاب الجريحة على مسرح اللصوص والجنائيين قليلاً، سيعيد السؤال البديهي نفسَه من جديد: ماذا كسبت أيدينا من وراء شعارات "الموت للعرب" واستسهال إطلاق النار على الأبرياء وقتلهم بدم بارد؟ ثم ماذا تبقى لدينا من أساليب قهرٍ ضد شعبٍ يرفض الاستسلام، رغم كل ما أنزلناه به على مدى قرن، من اقتلاعٍ وتشريدٍ وفقرٍ وقتلٍ واعتقال؟ وإلى متى سيظلّ العالم، الذي ندّعي الانتساب إلى قيمه الحضارية، يصادق على روايتنا الخرقاء، ويتسامح مع انتهاكاتنا الفظّة لأبسط حقوق الإنسان؟
لن يطرح قادة الاحتلال مثل هذه الأسئلة على أنفسهم علناً، ولن يتحدّثوا عنها أمام الكاميرات، غير أن رفقاء خيري علقم وعدي التميمي وإبراهيم النابلسي، وألوفا من الأقمار والنجوم في سماء فلسطين، ممن يخرجون على المحتلين بالمسدّسات والسكاكين، سوف يرغمونهم، في نهاية مطافٍ لن يطول، على التوقّف عن عادة ضرب الرأس في الحيط، سيما وقد بزغت من قلب هذا الليل الطويل شمس جيلٍ جديدٍ من المقاومين الأفذاذ، ورثوا راية الكفاح من الآباء باقتدار، جدّدوا الدماء في عروق شعبٍ لا تنكسر له روح، ولا يُفل له حديد، بعضُهم من أتراب خيري، يحاكي فراشة، إذا رفّ جناحها في القدس، أحدثت عاصفة مدارية تقلب الأنواء السياسية من حالٍ إلى حال.