فتوى "العدل الدولية" بشأن إسرائيل ... نقطة تحوّل أم فرصة فائتة؟

16 يناير 2023

جندي إسرائيلي ينظر من فجوة في جدار الفصل العنصري قرب أبو ديس (9/7/2013/فرانس برس)

+ الخط -

يذهب الفلسطينيون، مرّة أخرى، بإسرائيل إلى محكمة العدل الدولية لطلب رأيها الاستشاري في قانونية احتلالها الأرض الفلسطينية منذ العام 1967، إلا أن الطلب، هذه المرّة، يأتي خارجا عن السياق القانوني والدبلوماسي المعهود لتحرّكاتنا أمام مؤسّسات المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة، ومختلفا بالطبيعة والنطاق، عما طالبنا فيه المحكمة ذاتها في عام 2003، بشأن جدار الضمّ الإسرائيلي. بل ولربما ستشكّل نتيجته طفرةً قانونيةً باتجاه تطوير القانون الدولي برمّته، ما قد يحرّك تباعا عملية مراجعة قواعد القانون الدولي المعترف بانطباقها حاليا على الأرض الفلسطينية المحتلة لعام 1967، ومواءمتها، بما يشمل إعادة التوصيف القانوني للوجود الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية. 
تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 30 ديسمبر/ كانون الأول 2022، قرارا يقضي بإحالة طلبٍ إلى محكمة العدل الدولية لإصدار رأي استشاري (فتوى) بشأن الآثار القانونية المترتبة على انتهاك إسرائيل المستمرّ حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير. وقد تم التصويت على القرار، الذي جاء بناء على ما ورد في تقرير لجنة المسائل السياسية الخاصة وإنهاء الاستعمار (اللجنة الرابعة)، واعتمد بالأغلبية بتأييد 87 دولة، واعتراض 26 دولة وامتناع 53 دولة عن التصويت. وهذا الإنجاز يُسجل، وبحق، للدبلوماسية الفلسطينية التي نجحت في التفاوض وتمرير القرار بدهاء صيغته هذه، رغم المكائد التي انتهجتها وتحترفها إسرائيل لتقويض عملية التصويت؛ سواء باستغلالها كل ما يتوفر من تعقيداتٍ إجرائية، أو إيجاد بعضٍ منها، أو محاولة تأجيل التصويت إلى حين حلول العطل والأعياد، أو باللعب على وتر معاداة السامية، أو بضغطها على الدول بمختلف الطرق، لمنعها من التصويت لصالح القرار. كما يمكن قياس أهمية القرار بحجم الغضب الإسرائيلي الذي رافق إقراره، والذي لا يزال، هو وتبعاته المحتملة، محلا لتدقيق محللي دولة الاحتلال وتحذيرهم، وموضعا للمكابرة الهشّة، لقادتهم السابقين والحاليين. 
وقبل الخوض في تفاصيل قرار طلب هذه الفتوى، وشرح ما له من أهمية خاصة، قد يكون مفيدا، بداية، استعراض بعض المعلومات والحقائق الأساسية ذات الصلة بهذه الخطوة. 

اختصاصات المحكمة ومدى إلزامية قراراتها
محكمة العدل الدولية هي الأداة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة، تأسست في عام 1945، وتضطلع بدور مزدوج، يتمثل، أولا، في حل النزاعات القانونية التي تحيلها الدول إليها وفقاً للقانون الدولي. وثانيا، في تقديم فتاوى في المسائل القانونية المحالة إليها من أجهزة الأمم المتحدة والوكالات الدولية المخوّلة (كالحالة الفلسطينية هنا). وخلافا لإلزامية أحكام المحكمة، الصادرة بموجب اختصاصها بالفصل في النزاعات بين الدول، لا تتمتّع الفتاوى الصادرة عنها بالإلزامية (إلا في حالاتٍ معينة، ليس منها الطلب الفلسطيني)، إلا أن من الضروري الإشارة إلى أن السلطة الموضوعية للمحكمة، ومكانتها الدولية والقضائية، ومصداقيتها التي تتمتّع بها تضفي وزنا على الفتاوى الصادرة عنها، وعلى الاستنتاجات والتوصيات الواردة في هذه الفتاوى. كما أنه، ورغم عدم إلزامية الفتاوى، كوثيقة، إلا أن ما يرد فيها من أحكام تنبثق عن قواعد القانون الدولي، الملزمة بطبيعة الحال، لا يمكن معه تبرير تصرّف الدول بما يتعارض معها، كون هذه الأحكام تفسّر ما هو ملزم أصلا للدول وتوضحه.

ليس لمحكمة العدل الدولية أي ولاية قضائية فردية أو جنائية، فهي محكمة مدنية للدول وللهيئات الدولية، تتمتّع باختصاصات معينة

وقد ثبت تاريخيا مدى الحاجة الحقيقية لوجود هذه الوسيلة، أي إمكانية طلب فتاوى المحكمة، لما لها من دور مفصلي في تفسير القانون الدولي وإيضاحه وتطويره، سيما فيما يخصّ بلورة القانون الدولي العرفي وصياغته. وللتدليل على الأهمية الخاصة لهذه الفتاوى، يُذكر أنه، ومنذ تأسيس المحكمة، قد صدر عنها 28 فتوى، أبدت بموجبها المحكمة رأيها القانوني في مجالات قانونية عديدة مهمة والنزاعات التاريخية. وفي أغلب الأحيان، أخذت هذه الفتاوى بالاعتبار هيئات الأمم المتحدة والوكالات المتخصّصة التابعة لها، وغيرها من المنظمات الدولية، وعلى مستوى الدول، بدرجة التزام أقل. 
بالمختصر، ولإزالة أي لبس حاصل، ليس لمحكمة العدل الدولية أي ولاية قضائية فردية أو جنائية، فهي محكمة مدنية للدول وللهيئات الدولية، تتمتّع باختصاصات معينة تم تبيانها أعلاه. وبالتالي، لا ولاية قضائية لها لملاحقة الأفراد، أو محاكمتهم على تهم جنائية، كجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، وإنما يقع هذا الاختصاص على عاتق المحكمة الجنائية الدولية، وهي محكمةٌ مستقلةٌ غير تابعة للأمم المتحدة. وفلسطين ليست عضوا في محكمة العدل الدولية، كونها، أي فلسطين، ليست دولة عضوا في الأمم المتحدة، في حين أن فلسطين عضو طرف في المحكمة الجنائية الدولية منذ عام 2015. 

موضوع طلب الفتوى 
أوعزت الجمعية العامة، بموجب القرار المذكور لمحكمة العدل الدولية، بإصدار فتوى بشأن المسألتين: الأولى: ما هي الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمرّ لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلالها طويل الأمد الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، واستيطانها وضمّها لها، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديمغرافي لمدينة القدس الشريف وطابعها ووضعها، وعن اعتمادها تشريعاتٍ وتدابير تمييزية في هذا الشأن؟
الثانية: كيف تؤثر سياسات إسرائيل وممارساتها المشار إليها في الفقرة السابقة على الوضع القانوني للاحتلال، وما هي الآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة لجميع الدول والأمم المتحدة؟
وبقراءة المسألتين سوية، يمكن القول إن المطلوب من محكمة العدل الدولية هو: أولا، تحديد الآثار القانونية لانتهاكات الاحتلال الإسرائيلي على حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير. ثانيا، والأهم، هو البحث في قانونية الاحتلال الإسرائيلي، بحد ذاته، وهذه أول مرة يطلب من هيئة قضائية دولية البت في شرعية الاحتلال الإسرائيلي ككل. ولكي تتمكّن المحكمة من البتّ في هاتين المسألتين، يؤشّر القرار على ضرورة مراجعة مؤشرين أساسيين وفحص مدى قانونيتهما جنبا إلى جنب. وهما: طبيعة انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي بضم الأرض الفلسطينية بالقوة وسياساته التمييزية التي يرتكبها ضد الفلسطينيين (المؤشر الأول). مدة الاحتلال الإسرائيلي (المؤشّر الثاني)، حيث إن هذا الاحتلال، وفقا للقرار، لم يعد حالة مؤقتة، بل أصبح دائما، وجد ليبقى إلى الأبد، وهو ما يخرجه عن مشروعيته المقرّرة وفقا لأحكام القانون الدولي التي تنظّم حالة الاحتلال الحربي. ويعد وضع مدة الاحتلال الإسرائيلي تحت التدقيق القضائي الدولي مؤشّرا لتحديد مدى قانونية هذا الاحتلال (إلى جانب انتهاكاته) يعد أيضا علامة قانونية فارقة لهذا القرار، قد تساهم في تطوير القانون الدولي برمته.

سيتعين على المحكمة تناول أوضاع اللاجئين الفلسطينيين وحقهم بالعودة، والفلسطينيين القاطنين في أرض فلسطين التاريخية لعام 1948، أي داخل إسرائيل

أهمية الفتوى قانونيا وسياسيا ودبلوماسيا
على المستوى القانوني: 
لطالما أجمعت مئات القرارات والتقارير الدولية الصادرة عن مختلف الهيئات والمؤسسات الدولية على أن معظم السياسات والإجراءات الإسرائيلية، سيما الاستيطانية وضم أجزاء من الأرض الفلسطينية بحكم الواقع وبحكم القانون، تنتهك حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وهذا الحق، بحسب القانون الدولي، شرط أساسي للضمان الفعلي لاحترام حقوق الإنسان الفردية والجماعية. بل كانت محكمة العدل الدولية ذاتها  قد أقرّت، في فتواها في عام 2004، بأن تشييد الجدار الإسرائيلي في الأرض الفلسطينية، والنظام المرتبط به، من ضمّ للأراضي بالقوة، وإنشاء المستوطنات، بما في ذلك في القدس الشرقية، وتفتيت الأرض، والترحيل القسري للفلسطينيين، وإحداث تغييراتٍ في التركيبة الديموغرافية للأرض الفلسطينية، أقرّت بأنها كلها عوامل تعيق بشدة ممارسة الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير، ومن ثم، فإنها تعدّ خرقا لالتزام إسرائيل باحترام هذا الحق. 
وبالتالي، يمكن القول إن ما يستحدثه قرار الجمعية العامة هو الطلب من المحكمة التدقيق في بعض هذه الإجراءات، ليس فقط من خلال طبيعتها وتكييفها (المؤشر الأول)، وهو الأمر الذي سبق وبتت فيه المحكمة، بل ومن خلال النظر إليها أيضا من عدسة الديمومة وطول مدتها (المؤشر الثاني). كون أن هذه الإجراءات أوجدت أمرا واقعا ووضعا دائما لا رجعة فيه، بعكس ما تدّعيه إسرائيل أمام المحافل الدولية باعتبارها إجراءاتٍ مؤقتة. وبالتالي، نكون قد أصبحنا أمام حالة استعمار استيطاني يعمل على ضم الأراضي بالقوة وبشكل دائم، وليس حالة احتلال حربي مؤقت، ما يستدعي الاستعانة بتطبيق قواعد أخرى من القانون الدولي، تحديدا قانون مشروعية الحرب (Jus ad bellum) عوضا عن تطبيق قانون تنظيم الحرب (Jus in bello)، وهو ما يُعرف بالقانون الدولي الإنساني، وبالتالي، العودة وتقييم ما إذا كان الوجود الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية لعام 1967، يستوفي متطلبات الضرورة والتناسبية التي يشترطها قانون مشروعية الحرب، وإلا حُكم بعدم قانونية هذا الوجود ككل. 
كما أن ما استجدّ في قرار الجمعية العامة في هذا السياق هو الطلب من المحكمة البتّ في أثر السياسات والممارسات الإسرائيلية على حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني بأكمله، باعتباره شعبا واحدا بمصير واحد، من دون الاقتصار بالتحديد على الفلسطينيين القاطنين في الأرض الفلسطينية لعام 1967، وحقهم في إنهاء الاحتلال، وعدم إيقاع أية تغييرات تمسّ بمدينة القدس، بأكملها، وتنتهك وضعها المحمي بموجب القانون الدولي. وبالتالي، سيتعين على المحكمة أيضا تناول أوضاع اللاجئين الفلسطينيين وحقهم بالعودة، والفلسطينيين القاطنين في أرض فلسطين التاريخية لعام 1948، أي داخل إسرائيل، وحقوقهم ومسألة مساواتهم بالمواطنين اليهود هناك.

يطلب قرار الجمعية العامة من محكمة العدل الدولية البتّ في قانونية الاحتلال الإسرائيلي الأرض الفلسطينية بشكل كامل في ضوء انتهاكاته وديمومته

ويطلب قرار الجمعية العامة من المحكمة أن توسّع عند مراجعتها إطار السياسات والممارسات الإسرائيلية، وتحديدا التشريعات والتدابير التمييزية ضد الفلسطينيين، التي قد تشمل قانون الدولة القومية لعام 2018، وقانون المواطنة والدخول، وفرض قيود تمييزية على حركة الفلسطينيين، وتخصيص طرق للمستوطنين فقط، والإغلاقات، وفرض نظام تخطيط وبناء تمييزي ضد الفلسطينيين على أرضهم، وفي التنمية، والهدم والإخلاء، وهدم المنازل العقابي، وحصار غزة الطويل المستمر، وتوسيع نطاق تطبيق القانون الإسرائيلي خارج حدودها، ليشمل الضفة الغربية، ما يؤدّي إلى حرمان الفلسطينيين بشكل تمييزي من أبسط حقوقهم المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، سيما حقهم في السكن وفي مستوى معيشي لائق وفي العمل وفي الغذاء والماء والصحة والتعليم، وفي بناء مجتمعاتٍ موصولة ومتواصلة، خصوصا إذا ما قورنت بامتيازات المستوطنين اليهود الإسرائيليين وامتيازاتهم ومنافعهم في الأرض الفلسطينية المحتلة لعام 1967، ويتمتعون بها سواء بموجب القوانين والسياسات الإسرائيلية التمييزية لصالحهم، أو من حصيلة أعمال النهب والعنف التي يرتكبها هؤلاء ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم، والتي لا تسائلهم دولة الاحتلال عن ارتكابها.
ومن مراجعتها السياسات والإجراءات التمييزية الإسرائيلية، قد تخلص المحكمة إلى أن إسرائيل ترتكب جريمة التمييز العنصري ضد الفلسطينيين، أو أن إسرائيل قد أوجدت نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد)، وتفرضه على الفلسطينيين جميعا، أينما وجدوا، كون أن سياساتها تهدف إلى إدامة نظام عزل وتمييز واضطهاد يعاني فيه الفلسطينيون، في مقابل إدامة هيمنة اليهود الإسرائيليين على الفلسطينيين وعلى حياتهم بشكل منهجي. وفي تلك الحالة، تكون المحكمة قد انضمّت إلى التيار الحقوقي العالمي الذي تصاعد في الفترة الأخيرة، والذي يصف ممارسات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني بأنها وصلت إلى مستوى الفصل العنصري، كما أوردته تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا) وهيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، وخبراء في القانون الدولي، مثل مايكل لينك وجون دوجارد وريتشارد فولك. ولكن يبقى لقول محكمة العدل الدولية ما إذا كانت إسرائيل مرتكبة جريمة الأبارتهايد أهمية خاصة، كونها ستكون المرّة الأولى التي يُبتّ بشأنها صراحة على المستوى القضائي، ومن الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة. وقد يكون لهذا القول أثر كبير إما في تعزيز موقف فلسطين ومؤسسات المجتمع المدني المحلية والدولية وعملها في هذا الشأن، أو تقويضه. 

العودة إلى الوراء وكسر الإجماع الدولي
وكما ذكر سابقا، يطلب قرار الجمعية العامة من محكمة العدل الدولية البتّ في قانونية الاحتلال الإسرائيلي الأرض الفلسطينية بشكل كامل في ضوء انتهاكاته وديمومته. وللتفصيل أكثر، معروف أن الأرض الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية وقطاع غزة، تخضع لاحتلال حربي من إسرائيل. ويجمع العالم تقريبا على هذا الموقف حاليا، آخذين بالتوصيف القانوني باعتبار أن إسرائيل هي السلطة القائمة بالاحتلال، وأن القانون الدولي الإنساني هو الواجب التطبيق على حالة الاحتلال هذه، مع القانون الدولي لحقوق الإنسان. إلا أن احتلال الأراضي في زمن الحرب يشكّل، بموجب القانوني الدولي الإنساني، حالة مؤقّتة، ولا يحقّ فيها للسلطة القائمة بالاحتلال بتجريد الدولة الواقعة تحت الاحتلال من دولتها ولا من سيادتها، ولا من أراضيها، كلها أو جزء منها، وهذا هو ما يميّز حالة الاحتلال القانونية عن حالة الضم غير القانونية، بموجب قواعد القانون الدولي. ولكن، لا يزال إعمال هذه القواعد الدولية غير واضح على مستوى التطبيق الفعلي. وهنا سيأتي دور محكمة العدل الدولية في تفسير هذه القواعد وبلورتها، لغايات تحديد ما إذا أصبح الاحتلال الإسرائيلي من حالات الاحتلال غير القانونية، بفعل خروجه عن شروط الاحتلال القانوني ومعاييره: التوقيت، وعدم الضم. فقد كانت محكمة العدل الدولية قد أقرّت في فتواها لعام 2004 بشأن تشييد الجدار بوضع إسرائيل بصفتها السلطة القائمة بالاحتلال في الأرض الفلسطينية.

قد تعيد المحكمة إعادة صياغة التوصيف القانوني للوجود الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية لعام 1967، من دون الإخلال بالالتزام القانوني المفروض على إسرائيل

ولكن، نظرا إلى التوسّع الكبير في مدى وعمق سيطرة إسرائيل على الأرض الفلسطينية وضمها إليها بحكم الواقع والقانون، منذ ذلك الحين، وازدياد الأدلّة بأن هذا الاحتلال قد أمسى احتلالا إلى الأبد، بدلالة التصريحات الرسمية للقادة الإسرائيليين، خصوصا بالفترة الأخيرة، وعدم اتخاذ أية إجراءات لإنهاء الاحتلال، قد تستعين المحكمة هذه المرّة في معرض تدقيقها لقانونية الاحتلال الإسرائيلي ككل بأطر قانونية دولية مختلفة كقانون مشروعية الحرب، والضم غير القانوني، والاستعمار الاستيطاني، والفصل العنصري، وهذا ما تم تبيانه بشيءٍ من التفصيل أعلاه. وبالتالي، قد تعيد المحكمة إعادة صياغة التوصيف القانوني للوجود الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية لعام 1967، من دون الإخلال بالالتزام القانوني المفروض على إسرائيل، بجميع الأحوال، باحترامها قواعد القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان والأعراف الدولية، والتوقف فورا عن جميع انتهاكاتها، وجبر الضرر، لكن مع إلزامها، هذه المرّة، صراحة بإنهاء احتلالها الأرض الفلسطينية لعام 1967. 

إسرائيل ليست وحدها المسؤولة  
بغض النظر عن النتيجة التي ستخرج بها محكمة العدل الدولية بفتواها، سواء بأفضل سيناريو، بالإقرار بعدم قانونية الاحتلال الإسرائيلي ككل، واعتباره استعمارا استيطانيا يرتكب جرائم الضم والفصل العنصري، أو بسيناريو وسطي، بالإقرار بارتكاب إسرائيل جريمة التمييز العنصري، أو بأسوأ سيناريو، وهو المعتاد، والإقرار فقط بعدم قانونية ممارسته وسياساته في الأرض الفلسطينية، يبقى المجتمع الدولي، بدوله ومؤسساته، مسؤولا في جميع الأحوال، وبموجب القانون الدولي، عن العمل على اتخاذ كل الإجراءات لإنهاء الوضع غير القانوني المترتب على سياسات الاحتلال في الأرض الفلسطينية المحتلة. ولكن، تزداد رقعة مسؤوليات المجتمع الدولي وتشتد، كلما اشتدّت انتهاكات الاحتلال جسامة. 
وبالمختصر، تتحمّل الدول، بموجب التزاماتها الدولية العرفية والتعاقدية، بعدم الاعتراف بالأوضاع غير القانونية الناتجة عن ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، أو وجوده ككل، وعدم تقديم أي شكل من العون والمساعدة التي تساهم في الإبقاء على هذه الأوضاع القانونية، وكفالة التزام إسرائيل بالقانون الدولي، فضلا عن ملاحقة المسؤولين الإسرائيليين لانتهاكهم القواعد الآمرة للقانون الدولي (jus cogens)، كالحق في تقرير المصير، وارتكابهم مخالفاتٍ جسيمة للقانون الدولي، وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، والعمل على مساءلتهم في المحاكم الوطنية التابعة لهذه الدول. 
ومن الضروري التشديد هنا على أن إيقاع محكمة العدل الدولية هذه الالتزامات على عاتق الدول بمنطوق حكم الفتوى لا يعد إلا أمرا كاشفا، وليس منشئا لهذه الالتزامات، كونها التزامات (erga omnes)؛ تلزم الدول بمراعاتها واحترامها، في جميع الأحوال، لمجرّد أنها عضو في الأسرة الدولية، وبالتالي، عليها احترام قواعد القانون الدولي العرفي، الملزم للجميع، واحترام التزاماتها التعاقدية المترتبة على عاتقها بموجب انضمامها للاتفاقيات الدولية ذات الصلة.

نجحت فتاوى محكمة العدل الدولية في مرّات عديدة في تشكيل ضغوط سياسية دولية على الأطراف المعنية، وعلى هيئات الأمم المتحدة

إحراج المحكمة الجنائية الدولية 
لا سلطة لمحكمة العدل الدولية على المحكمة الجنائية الدولية، والعكس صحيح. ولكن قد تدفع مخرجات هذه الفتوى بالمحكمة الجنائية الدولية لتعجيل التحقيق في حالة الأرض الفلسطينية المحتلة، ووقف حالة المماطلة و/أو التهميش بخصوصها، ومحاكمة الجناة الإسرائيليين. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه سبق للمحكمة الجنائية الدولية وأخذت بالفتاوى الصادرة عن محكمة العدل الدولية، سواء فيما يخصّ الحالة الفلسطينية، أو غيرها من المسائل ذات الصلة بالدراسات الأولية والتحقيقات التي تجريها المحكمة الجنائية الدولية، وهذا يعطي فائدة قانونية إضافية لموضوع الفتوى الحالية. 

سياسيا ودبلوماسيا
على الرغم من عدم إلزامية فتاوى محكمة العدل الدولية، إلا أن هذه الفتاوى نجحت في مرّات عديدة في تشكيل ضغوط سياسية دولية على الأطراف المعنية، وعلى هيئات الأمم المتحدة، ما ساهم في فتح الآفاق أمام الحلول القانونية والسياسية لعدة نزاعات دولية. فعلى سبيل المثال، ما حدث في عام 2019، حين أصدرت محكمة العدل الدولية فتوى مفادها بأن المملكة المتحدة ملزمة بإنهاء سيطرتها الإدارية على جزر شاغوس بأسرع ما يمكن، وتبع ذلك صدور قرارات من الجمعية العامة تطالب بريطانيا باستكمال إنهاء استعمارها موريشيوس، بما في ذلك جزر شاغوس. وعلى الرغم من أن الحكومة البريطانية ماطلت في حلّ هذه المسألة أكثر من 60 عاما، وكانت قد رفضت اختصاص محكمة العدل الدولية على النظر والبتّ فيها، إلا أنها وافقت، بعد كل هذا الزخم القانوني والسياسي، على الدخول في مفاوضاتٍ مع موريشيوس بشأن السيادة على هذه الجزر. 

هل تعلمنا الدرس؟ 
تلقّى الفلسطينيون خبر قرار الجمعية العامة بطلب فتوى محكمة العدل الدولية، مرّة أخرى، بحالة من البرود شبه الكامل وعدم الاكتراث. وهذا قد يُعزى إلى عدة أسباب، أهمها فقدان الثقة بالمنظومة الدولية بسبب تعاجزها عن التدخل الفعّال في القضية الفلسطينية، وأننا كنا قد فشلنا في استغلال الفتوى الأولى الصادرة عن المحكمة في العام 2004، بشأن تشييد جدار الفصل والضم الإسرائيلي، والتي جاءت نتيجتها من صلب القانون الدولي لصالح الحق الفلسطيني؛ إذ أقرّت المحكمة بعدم قانونية الجدار بمساره الحالي، وكذلك النظام المرتبط به، وطالبت إسرائيل بوقف العمل فيه، وإزالة ما شيّد منه، وتعويض الفلسطينيين عما لحق بهم من أضرار. وطالبت المجتمع الدولي، بما في ذلك مجلس الأمن، بإنهاء الوضع غير القانوني الناتج عن إنشاء الجدار والنظام المرتبط به. 
والآن، المطلوب من الفلسطينيين هو العمل على إيجاد قرار سياسي فلسطيني صارم ومستعد وجاهز لدفع الاستحقاقات المترتبة على هذه الخطوة، لإجبار إسرائيل، التي سترفض الفتوى، في جميع الأحوال، على الامتثال للقرارات الدولية وقواعد القانون الدولي، وجعل احتلالها الأرض الفلسطينية باهظ الثمن. ومن أهم الخطوات تبنّي برنامج شامل وحاسم للخطوات التي يجب تنفيذها وطنيا ودوليا (يمكن بحث تفاصيله في حينه)، بما يشمل وقف كل أشكال "التعاون" والتنسيق مع الاحتلال، والتوقف عن استجداء المفاوضات من أجل المفاوضات، والتمسّك بالحلول المبنية على الحقوق والقانون، وتبنّي نهج المقاطعة وفرض العقوبات بشكل رسمي وشعبي شامل، وبناء التحالفات الإقليمية والدولية مع الدول والشعوب، لتحقيق الاستفادة القصوى من الفتوى واغتنام زخمها على كل الأصعدة.

ليما بسطامي
ليما بسطامي
مستشارة قانونية سابقة في وزارة الخارجية الفلسطينية