فاز ولم يفرح

27 نوفمبر 2022

بريل إيمبولو بعد تسجيله هدف الفوز لسويسرا ضد الكاميرون في كأس العالم (24/11/2022/Getty)

+ الخط -

وحدهم المتفوّقون على بلادهم لا يشعرون بنكهة الفوز، لأن الندّ أقرب إليهم من حبل الوريد. هذا ما أثبته اللاعب بريل إيمبولو، السويسري الجنسية، الكاميروني الأصل، عندما رفض الاحتفال بهدف الفوز الوحيد الذي أحرزه لفريقه السويسري في مباراته مع الكاميرون في مونديال قطر.

هي مشاعر عصيّة على التفسير، تلك التي تنتاب المتفوّقين في المنافي، أبناء الجنسيات الهجينة، الذين تركوا بلادهم "تنام على حجر"، كما قال نزار قباني وهو يغادر إلى لندن، مغادرة أشبه بالهجرة، بعد أن "ضاقت بلادٌ بأهلها" قبل أن تضيق أخلاق الرجال فيها.

على الأرجح، لن يعتب السويسريون على ابن جنسيتهم إيمبولو الذي لم يرقص طرباً بالهدف الثمين كما رقصوا هم، لأن المهم بالنسبة إليهم هو الفوز، ورفع علمهم في سماء المونديال، أما هو الذي كان يتمثّل ديك إبراهيم طوقان الذبيح، فربما أنشد معه: "ما كلُّ رقصٍ يطربُ..". ولربما اختار زاوية نائية يذرف فيها دمعاً حبَسه طوال غربته على بلد لم يتح مسرباً واحداً لإطلاق موهبته من عقالها، لكن الوطن نفسه كان أول ضحايا الموهبة عندما انطلقت.

أتراه فاز على بلده، أم انتقم من بلده؟ سؤال محيّر لا يعرف إجابته غير من كان في موضع بريل إيمبولو، الذي وضع حدّاً لأكذب بيت في الشعر العربي: "بلادي وإن جارت عليّ عزيزة/ وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرام"، فقد أدرك إيمبولو أن "الوطنيّة" يمكن أن تكون أكبر خدعة سوّقها الطغاة، لتأبيد عروشهم، يوظّفونها حيث يشاؤون، ويتلاعبون بها مثل الكرة ليودعوها شباكهم في نهاية المطاف. ولو كان حمل إرث "الوطنية" الخادع على كاهله لما لعب المباراة أصلاً ضد بلاده، لكنّه لعب ودافع عن علم جديد، ووطن جديد، أدرك عظم موهبته، وأفرد له الأرض والفضاء، ليطلقها من عقالها، ويحقّق ذاته المحبوسة في قمقم الوطن.

أما الحسرة التي انتابته، وحسمت من رصيد أفراحه، فعلى الأغلب أن مردّها يعود إلى بكائه على شعبه الذي ما زال حبيس القمقم ذاته، حيث الفقر والجوع والمرض، وحيث طغاة العالم الثالث الذين يحرسون "مرمى" عروشهم من أيّ كرةٍ للحرية، تحاول الدخول وزعزعة ما يسمّونه "الأمن الوطني"، و"الثوابت"، و"الاستقرار"، وغيرها من مصطلحات عقيمة لا تعني غير "أمنهم" الشخصيّ، و"استقرارهم" على عروشهم.

غير أن "الهدف" المحرز هذه المرّة كان أشبه بقذيفة لم تطلقها قدم إيمبولو وحدها، بل جاء حصيلة مفرطة من سنوات القهر المكتوم في صدره، موجهة إلى ذلك المرمى الذي يحرسه الطاغية، لتهشيم زجاج الحماية الذي يظنه الشعب ترسانة حديدية، لكنه أوهى من بيت العنكبوت. وهي قذيفة موجهة للشعب، أيضاً، الذي ما زال يعيش خدعة "الدفاع" عن ثوابته التي تشبه كرة الحديد في أرجل السجناء، لعلّها توقظهم من سباتهم في كل الفصول.

لكنه لم يحتفل، ولم يشعر بلذة الانتصار، ربما احتراماً لمشاعر شعبه الذي عاش هزيمتي الوطن والملعب، وكان يمنّي النفس بانتصار يتيم يشعره بفوز ما، أمام الخسارات التي يعيشها يوميّاً في صراعه مع الكبت والفقر والحرمان، غير أن "الكيّ" الذي يؤمن به إيمبولو أول وسيلة لعلاج الشعوب جعلته مصمّماً على إحراز هذا الهدف دون غيره في مرمى بلاده، على قاعدة "أهل الكاميرون أدرى بشعابها"، ويعرفون من أين يؤكل "العظم".

أما الذين يصمون إيمبولو بـ"الخيانة"، فعليهم مراجعة مفاهيمهم جيداً، لأن الخيانة بدأت من الوطن نفسه الذي حرمه أبسط مقوّمات الحياة اللائقة، وحالت بينه وبين إطلاق مواهبه، واحترامه ذاته، وأرادته "لاعباً"، لكن وفق شروط السلطة، وعلى حبالها فقط، لكنه ردّ على سلسلة الأهداف التي أحرزتها السلطة في مرمى شعوبها بهدفٍ صاعقٍ ردّ الاعتبار أولاً، وقبل كل شيء، للشعب الذي سيحتاج وقتاً طويلاً ليعرف طعم "الفوز".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.