غزّة... وماذا بعد؟
ليس هناك ما ينبئ بنهاية وشيكة للعدوان الوحشي الذي يشنّه الكيان الصهيوني على قطاع غزّة منذ أكثر من 135 يوماً. وتزداد الأوضاع الإنسانية سوءا مع رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقف إطلاق النار وتشبثه بالقضاء على حركة حماس وإعادة المحتجزين الإسرائيليين، مدعوما في ذلك من الولايات المتحدة التي أجهضت، الثلاثاء الماضي، مشروع قرار جزائري، داخل مجلس الأمن، لوقف فوري لإطلاق النار. ومن الواضح أن "الفيتو" الأميركي يمنح الضوء الأخضر لقوات الاحتلال لمواصلة عدوانها وتوسيع توغّلها البري نحو مدينة رفح التي قد تكون مفتاح الحسم في الأسابيع المقبلة.
تدرك الدول الغربية الكبرى، وتحديداً الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، أن صمودَ المقاومة، ورفضَ سكّان القطاع مغادرته على الرغم من الأثمان الباهظة التي يدفعونها، واتساعَ قاعدة المؤيدين للحقّ الفلسطيني في الغرب، وخسارةَ إسرائيل المعركة الأخلاقية أمام الرأي العام العالمي سيُفرز تداعياته إسرائيلياً وإقليمياً ودولياً. فداخل إسرائيل، أصبحت العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول في حكم المستحيل، فما حدث قد حدث، ولم يعد بالوسع استعادة الهيبة الإسرائيلية التي ضُربت في مقتل. لم يكن ''طوفان الأقصى'' مجرّد هجوم عسكري على العمق الإسرائيلي، بقدر ما كان زلزالاً سياسياً وثقافياً أعاد الصراع إلى مربّع الصفر، باعتباره نضال شعب في مواجهة استعمار استيطاني، وليس صراع حدودٍ بين شعبين كما سوّقه الإعلام الغربي عقوداً. ولعل ذلك ما يفسّر حالة السعار التي تجتاح الدولة والمجتمع الإسرائيليين، خصوصاً أمام استماتة المقاومة وكفاءتها اللافتة في إدارة المفاوضات.
إصرار نتنياهو على توسيع التوغل البرّي في اتجاه مدينة رفح إقرارٌ ضمنيٌّ بإخفاق قوات الاحتلال في تحقيق أهدافها المعلنة من الحرب، وفي مقدّمتها القضاء على حركة حماس وتفكيك قدراتها وتحرير المحتجزين. ويتوازى هذا الإخفاق مع الجبهة القانونية التي لم تتوقّع إسرائيل أن تُفتح ضدّها، فالدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدها أمام محكمة العدل الدولية ليست مجرّد دعوى قضائية تُتَّهم فيها بارتكاب ''إبادة جماعية'' بحق الفلسطينيين، بقدر ما هي إدانة أخلاقية وسياسية للمشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، ولكل المشاريع الاستعمارية الاستيطانية الغربية التي شهدها التاريخ القريب، وفي مقدّمتها نظام الفصل العنصري الذي أقامه السكان البيض في جنوب أفريقيا، والذي كان يُعدُّ الابن الشرعي للمشروع الاستعماري الاستيطاني الذي أقامته بريطانيا في جنوب أفريقيا بعد احتلالها في مطلع القرن 19.
على الصعيدين الإقليمي والدولي، يعكس حديث الرئيس الأميركي جو بايدن بشأن إحياء حل الدولتين مخاوفَ أميركية وإسرائيلية من أن تفرز الحرب الحالية ميزان قوى جديدا على الساحة الفلسطينية، تكتسي بمقتضاه حركتا حماس والجهاد الإسلامي شرعية سياسية وشعبية وتاريخية، سيكون من المستحيل القفز عليها، بعدما أظهرت الأحداث ضعف السلطة الوطنية الفلسطينية ونهاية صلاحيتها السياسية. وفي المحصلة، ستكون الدولة الفلسطينية، وفق المنظور الأميركي، إعادة إنتاج للسلطة الوطنية بكل أعطابها، بما يفسح المجال أمام تسويةٍ لن تختلف كثيرا عن اتفاق أوسلو (1993). لا تقدّم الإدارة الأميركية خريطة طريق من أجل الوصول إلى الدولة الفلسطينية المنشودة، ما يكشف أن الأمر ليس أكثر من خدعةٍ سياسيةٍ، تهدف إلى توسيع نطاق التطبيع العربي الإسرائيلي، يكون عنوانه العريضُ تطبيعاً سعوديّاً إسرائيليّاً يُشرع الباب على مصراعيه أمام دولة الاحتلال للاندماج السياسي والاقتصادي في النظام الإقليمي العربي، بالتوازي مع تصفية القضية الفلسطينية بتعويمها في مسار تسويةٍ بلا أفق. بيد أن الولايات المتحدة تدرك أن نجاح مخطّطها هذا يقتضي استبعاد المقاومة الفلسطينية من تفاهمات ما بعد الحرب، وهو أمر رهينٌ بمجريات الحرب ومآلاتها، وإعادة بناء السياسة الإسرائيلية من الداخل، بشكلٍ يُضعف الصهيونية الدينية ويحدّ من تمدّدها داخل دولة الاحتلال، بما يسمح بصعود حكومة إسرائيلية جديدة قادرة على إعادة إنتاج تجربة حكومة إسحاق رابين (1992-1995). وبالتالي، فسح المجال أمام واشنطن لتجريب وصفتها الجديدة في إطالة أمد الاحتلال وتكريس التفوّق الإسرائيلي.