غزّة وعدالة المجتمع الدولي

25 نوفمبر 2023
+ الخط -

لم يكن مفهوم "جرائم بحق الإنسانية" سائداً قبل الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945). شرّعت محاكم نورنبيرغ الأبواب أمام محاكمة بعض، لا جميع، أركان النظام النازي الألماني. وساهمت هذه المحاكم، مع نشوء الأمم المتحدة، في صياغة ما اصطُلح على تسميته "المجتمع الدولي". وظيفة هذا النادي تكمن في تحشيد مواقف الدول، أيا يكن حكّامها، في سبيل مبادئ سنّها هو في نهاية الحرب العالمية الثانية. وعلى هذا الأساس، دُرّس مفهوم "المجتمع الدولي" وقوانينه وعدالته في عديد من معاهد القانون في العالم.

بعد 78 عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية، أظهر المجتمع الدولي أنه ليس وفيّاً لمبادئه، مولجاً بالاقتصاص فقط ممن توافقت التيارات المؤثرة دولياً على محاسبته. والتوافق هنا لا يأتي بمعرض الظلم بحقّ أشخاصٍ متل سلوبودان ميلوسيفيتش، بل في سياق أن محاسبته وحده، من دون آخرين، نتاج للفكر السياسي الأقوى من المفهوم القضائي. في نورنبيرغ مثلاً، لم يُحاكَم كل النازيين، بل أصبح كثيرون منهم عناصر لا بدّ منها في الصناعات العسكرية والفضائية لبلدان عدّة، أبرزها الولايات المتحدة. يحضر الجانب المظلم من نورنبيرغ في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة.

هل سيُحَاسَب شخصٌ واحدٌ من حكومة بنيامين نتنياهو دولياً؟ وفقاً للسائد حالياً، لن يحصل ذلك، بل سيتم الاكتفاء بالمحاكم الإسرائيلية حصراً، وهو أمرٌ يكفي للاعتبار أن إسرائيل، الرافضة للعدالة الدولية في الإطار القضائي، لا يحقّ لها الطلب من هذا المجتمع تغطية عدوانها على غزّة. لا يتعلق الأمر بالتناقضات، بل بكيفية عمل المجتمع الدولي.

وأيضاً، لا يُمكن لأي مُطالب بالعدالة أن يمنع حقّ كل الأطراف من رواية قصّتها، فكيف لو أن هذه الرواية مرتبطة بالفلسطينيين؟ لا يريد الإسرائيلي قطعاً السماح للغرب خصوصاً بسماع وجهة نظر الفلسطينيين. ويقيناً القول إنه لولا وسائل التواصل الاجتماعي، رغم التضييق عليها، لكانت الهيمنة الإسرائيلية على وسائل الإعلام عموماً قد أنهت كل مرتكزات القضية الفلسطينية. والسؤال ليس فقط بشأن القدرة على مواجهة الإسرائيلي في الإعلام، بل لماذا يرفض الإسرائيليون السماح للغرب بسماع الفلسطينيين؟ ألا يدّعي الإسرائيليون أنهم محقّون؟ وبالتالي، لا تخشى قوة الحق كلاماً باطلاً وفق هذا المنطق؟ يريد الإسرائيلي فرض "أوميرتا" على الفلسطينيين من جهة، والحديث عن حقّه في الوجود من جهة أخرى، في مفهومٍ يشابه أي استعمار حديث وقديم.

الأغرب هنا هو حديث نتنياهو عن استغرابه عدم إنشاء الأمم المتحدة مخيّمات للفلسطينيين في ما ادّعاه إنها "مناطق آمنة في غزة". لا يُمكن الاعتقاد أن نتنياهو غبيّ أو يستغبينا، بل يُرينا حقيقة التفكير الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين أولاً والعرب ثانياً: "أنتم سكّان مخيمات لا أكثر. لا حقّ لكم لا بدولة ولا بشبه دولة. لا حقّ لكم أن تعملوا وتنتجوا، بل المجتمع الدولي كفيل بإطعامكم ومعالجتكم طبياً. لا تفكّروا بطموحاتٍ أبعد من ثلاثية الطعام والماء والنوم".

على من لا يعرف الإسرائيلي، أو يعتقد أنه يؤمن بمجتمع دولي وعالم مثالي، مراجعة حساباته. يسعى الإسرائيلي فقط إلى تحقيق رؤية مفادها أنه "منارة الشرق الأوسط، التي يحيط بها الظلام المحدق". أي أنه قبل أقل من ثمانية عقود لا أكثر، حين لم تكن تلك المنارة موجودة، كانت الدياجير تغطّي أرض الشرق الأوسط وسمائه. في الواقع، أصبحت كذلك بعد تأسيس دولة إسرائيل على حساب الحقّ الفلسطيني.

مع ذلك، هل سيأتي كريم خان أو غيره أو أي محكمة من جنيف إلى لاهاي، لمحاسبة نتنياهو وجيشه وأركان حكمه؟ بالطبع لا. آخر ما يريده هؤلاء وصمهم بـ"معاداة السامية". إذاً، ماذا بقي من المجتمع الدولي؟ هيكلية تنتظر أن يملأها أشخاصٌ مناسبون في المستقبل مع عدالة بمفعول رجعي، أو إقفال مؤسّسة تشبه شركة على مشارف الإفلاس، طالما أن الغاية من وجودها، وهي العدالة، لم تتحقّق.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".