غزّة والنقاش من النقطة الثانية

13 نوفمبر 2023
+ الخط -

حتى وإن كان الفلسطينيون في غزّة يخوضون الحرب الحالية وحدهم من الناحية العملية، كما ظلوا يفعلون خلال السنوات الأخيرة، ويواجهون الهمجية الصهيونية بأنفسهم وأولادهم وممتلكاتهم ومجمل حياتهم، فإن الغالبية العظمى من الشعوب العربية تخوض حرباً موازية أتاحتها حرب غزّة، قوامها مواجهة الغطرسة والفوقية المتواصلة التي ما فتئوا يلاقونها من حلفاء الدولة الصهيونية، خصوصاً في الغرب، طوال عقود وجود "إسرائيل" على الأرض العربية، لكنها مواجهة بالكلمة المنطوقة والمكتوبة، لا بالسلاح.
تتركّز هذه الحرب الموازية، كما هو واضح في يوميّات العرب غير المحاربين، في مفردتيْن: مواجهة الدعاية الصهيونية ومن يتبناها في دول العالم، عبر كشف زيفها ومواجهتها بنشر الرواية العربية للأحداث في ما تيسر من وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بأي لغة كانت. ومقاطعة منتجات الشركات المتهمة بمساندة الاحتلال الصهيوني، وتعرية غير المقاطعين، والمطبّعين، والمتعاملين مع المطبّعين أيضاً.
صحيحٌ أن هذه الحرب الموازية، التي تتفرّع كل واحدةٍ من مفردتيْها إلى فروع عديدة، لا تفيد، بشكل مباشر، أهل غزّة الذين يواجهون الموت يومياً، لكنها بالتأكيد جزءٌ من الحرب الطويلة مع الاحتلال الصهيوني لبلادنا، المدعوم بأطماع الإمبريالية الغربية التي لا تنضب، فهي حربٌ أخرى قائمة ومتواصلة، ولكن معركة طوفان الأقصى هذه فتَّحت لها الساحات.
يستدعي هذا مناقشة حرب حقيقة الصراع؛ بين الدعاية الصهيونية والسردية العربية، بشكل مستقل. ففي هذه المعركة، تدور حربُ الكلمة حول ما إذا كانت الأحداث بدأت يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، كما تقول الدعاية الصهيونية وأنصارها، أم أنها متّصلة بما قبلها كما تقول الرواية العربية؟ ثم هل غرضها حماية أمن إسرائيل ودفاعها عن نفسها، كما تقول الدعاية الصهيونية أيضاً، أم أنها تستهدف تصفية القضية الفلسطينية وتهجير الفلسطينيين مجدّداً من أرضهم؟

شيوع الدعاية الصهيونية في الغرب، منذ اليوم الأول لقيام "إسرائيل"، سببه تلك العين العنصرية التي ينظر بها الغرب إلينا

كان أبرز مثالٍ على حرب الكلمة هذه، مقابلتي الناشط والكوميدي والطبيب المصري، باسم يوسف، اللتين ذاع صيتهما، مع المذيع البريطاني بيرس مورغان، وأبدع فيهما في طرح السردية العربية بشكل مبتكر، فبدا كما لو أنها المرّة الأولى التي تُطرح للرأي العام الغربي بهذا الاختصار والتكثيف والسلاسة، والمرّة الأولى التي يشعر فيها العرب بأن صوتهم تردّد صداه في الإعلام الغربي، فانعكس ذلك على عدد مشاهدات المقابلتيْن الذي بدا غير مسبوق. لكن اللافت في مقابلة باسم يوسف الثانية، ما اختتم به حواره مع المذيع الشهير، لا ما ابتدأ به أو ركّز عليه طوال الحوار، وهو تقريباً ما نفعله كلنا حين نناقش ونعارض ونرفض ونوضح ونعيد شرح وجهة نظرنا في مواجهة الدعاية الصهيونية المغرضة والمتوحّشة والمليئة بالأكاذيب، فنفترض أن قوام الأمر التضليل الذي تقوم به الصهيونية وأنصارها، وأن واجبنا الوحيد كشف الحقيقة. قال باسم في الختام: "هناك شعور عميق في الشرق الأوسط ولدى العرب أن الغرب لا ينظر إلينا أننا متساوون".
والحقيقة التي نبصرها اليوم أن ما اختتم به باسم جوهر المسألة لا سواه. إن شيوع الدعاية الصهيونية في الغرب، منذ اليوم الأول لقيام "إسرائيل"، التي تبدأ بأن دولتهم تأسّست لـ "شعب بلا أرض على أرض بلا شعب"، ولا تنتهي بأن المقاومة الفلسطينية نفّذت عمليتها يوم السابع من أكتوبر بلا سبب سوى أنها حركة إرهابية، سببه تلك العين العنصرية التي ينظر بها الغرب إلينا، فلا يعتبرنا نستحق أياً من تلك القيم الإنسانية التي ما فتئ يبشر بها، بل لا يعتبرنا نستحق أرضنا وبلادنا، ولا حياة كريمة نعيشها، ولا نستحقّ أبسط حقوق البشر في المجمل إلا ما تكرّم به منها علينا.

نواجه حرب الكلمة أمام أصحاب موقف عنصري، لا أمام مضلَّلين، إلّا قلة منهم

والحال أننا نبدأ جدلنا ضد وجهة النظر الصهيونية من النقطة الثانية، لا من الأولى التي مفادها وجوب التعاطي مع الصراع في الشرق الأوسط بحياديةٍ تتأسّس على التساوي بين البشر المفضي إلى وجوب تحقيق العدالة، إذ يبدو أننا نفترض أن تلك النقطة الأولى متحقّقة حكماً، لكن وقائع اليوم تثبت أنها غير متحقّقة، وأن مناصرة الدعاية الصهيونية في الغرب ليس سببها التضليل الإسرائيلي، وإنما النظرة غير المتوازنة التي تنظر بها إلينا تلك الأصوات في الغرب، فترى الصهيوني مستحقّاً كل شيء، ولا ترانا بشراً لنا حقوق تاريخية ووطنية وموضوعية. وسواء صدرت تلك الرؤية غير المتوازنة عن عقدة الذنب تجاه اليهودي، أو عن أطماع إمبريالية متواصلة، أو عن عنصريةٍ مقيمة، أو حتى عن غيرها، فالنتيجة واحدة، أننا نواجه حرب الكلمة أمام أصحاب موقف عنصري، لا أمام مضلَّلين، إلا قلة منهم.
ليس أبلغ وصفاً لهذا الحال مما يشرحه كتاب "نوعان من البشر: تشريح العنصرية العادية"، للكندي دوني بلوندان، وقد ترجمه عن الفرنسية عاطف المولى (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2020)، إذ يقول الكتاب إن النظرة الغربية للعالم تميّز بين نوعين من البشر: "نحن" أي الغرب الأبيض، و"الآخرون" أو الشعوب الملوّنة والعالم الثالث والبدائيون. والفصل بينهما جذري، فالغرب الأبيض هو التاريخ، بينما تكتسب الشعوب الملوّنة طبيعة جغرافية. ويضيف أن الفصل بين الإنسانيتين واضح، وأن الخطابات المعاصرة عن البدائيين وإقصاءهم المنهجي عن الحياة الإنسانية الحقيقية لا يبقيان محصوريْن في الكتب المدرسية، أو في القصص الخيالية، فهما يشكّلان نسيج الفلسفة الغربية ذاته، كما تُدرّس على مختلف المستويات، ويجري تعميمها ونشرها عبر وسائل الإعلام.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.