غزّة في صعود غالاوي
تخيل هذا المشهد: فائز فور إعلان انتخابه لمقعد تكميلي في البرلمان، يعلن ويقول إن رئيس الحكومة (وزعيم الأغلبية نظرياً) وزعيم حزب المعارضة هما "طرفا مؤخّرة واحدة". وأن يقال هذا في انتخابات لنظام حزبي برلماني، كالنظام البريطاني، حيث إن نجاح الفرد في الاقتراع مرهونٌ بنجاح حزبه، بدرجة وأخرى، فهو موضع غرابة أخرى. ولكن أن يقولها جورج غالاوي، زعيم الحزب الجديد، حزب العاملين البريطانيين (Workers Party of Britain)، فذلك سيخفّف من وطأة الغرابة لديك قليلاً، فهو معروفٌ بتصريحاته الجدلية، والمتجاوزة تقاليد الصوابية السياسية البريطانية، وبالمباشرة. أما أن تقال في ظل استمرار المقتلة البشرية في غزّة، وحال الغضب الشعبي الذي يجتاح قطاعات واسعة من الأوروبيين، ومنهم البريطانيون، فلم يعد أي داعٍ للاستغراب من تلك التصريحات، فقد بدأ غالاوي خطابه ذلك باعتباره نصراً لغزّة.
غالاوي، الذي سطّر حياته السياسية، بكثير من الجدل، وبالنزوع إلى أقصى اليسار منذ أصبح أصغر مقرّر لحزب العمّال في اسكتلندا (Scottish Labour Party) مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حتى طرده من الحزب عام 2003، حين قاد بضراوة جهود معارضة الحرب في العراق. انضم بعدها إلى حزبٍ يُعرف باسم "الاحترام"، ولاحقاً أسّس حزبه الحالي الذي حاول من خلاله استقطاب المجموعة التي ارتبطت بزعيم حزب العمّال، جيرمي كوربن، الذي أقصي عن زعامة حزب العمّال، بتهم معاداة السامية، وقضايا أخرى. وعبر عضويته في الأحزاب الثلاثة، فاز غالاوي في الانتخابات عدّة مرات، عن أربع مدن، مقارباً رقم الزعيم التاريخي وينستون تشرتشل.
ولكن، لطالما كان غالاوي مثيراً للجدل في السياسة البريطانية منذ لقائه الرئيس العراقي السابق صدّام حسين، عام 1994، أو مشاركته في برنامج لتلفزيون الواقع، أو تقديمه برنامجاً على شاشة قناة الميادين، في عزّ الأزمة السورية، أو برامجه على تلفزيون روسيا اليوم، وتشكيكه بتورّط روسيا في محاولة اغتيال العميل الروسي سكريبال، وانتقاد الغرب في حرب أوكرانيا... إلخ.
يعود غالاوي بهتاف "فلسطين حرّة"، خصوصاً أن المناطق التي نجح فيها تشهد تمركزاً مسلماً مثل روشديل التي فاز بها أخيرا، حيث إن نسبة المسلمين تتجاوز 30%
وطالما بنى غالاوي حياته السياسية على تأييد أصوات المسلمين البريطانيين في السياسة البريطانية، ويذكر المتابعون حمله على الأكتاف عام 2010 بعد فوزه في الانتخابات وسط التكبيرات، الآن يعود بهتاف "فلسطين حرّة"، خصوصاً أن المناطق التي نجح فيها تشهد تمركزاً مسلماً مثل روشديل التي فاز بها أخيرا، حيث إن نسبة المسلمين تتجاوز 30%، ولا تختلف عنها برادفورد ولا بيثنيل غرين اللتان مثلهما غالاوي من قبل. ولكن هذا الارتباط، يقول متابعون، إن النائب المولود في اسكتلندا (64 عاماً) دفع ثمنه بعد معارضته الثورة السورية (2011) عام 2015، حين خسر مقعده البرلماني، في وقت كانت نسَب التأييد للثورة هناك عالية آنذاك بين أوساط المسلمين البريطانيين. وتعبّر عودة غالاوي عن تأثير حرب غزّة في توجهات المصوّتين البريطانيين، خصوصاً في بعض المناطق، ويبدو أن هذا تدركه حكومة المحافظين غبر مكتملة الشرعية (أكرّر ذلك باعتبار أن رئيس الوزراء ريشي سوناك لم يُنتخب مباشرة من الشعب عبر حزبه، بل جاء وفقاً لتصويت داخل الحزب فقط حلاً لأزمة الخلافة بعد بوريس جونسون، وصاحبة الأيام المعدودة في 10 دواننغ ستريت، ليز تراس).
بعد أسابيع من حملات من شخصيات داخل الحزب، ومنهم تراس نفسها، من التحذير من التطرّف الإسلامي (وعلى استحياء اليمين المتطرف)، خصوصاً أن الحزب مني بهزيمة قوية في ما يتعلق بمحاولة منع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، وفي القانون المثير للجدل بنقل طالبي اللجوء إلى أوغندا، وكثير من السقطات والتراجعات، جاء خطاب سوناك ليحذّر من الأسطوانة نفسها، أن شوارع بريطانيا باتت مستلبَة من المتطرّفين، خصوصاً الإسلاميين.
يعمد المحافظون، كلما تراجعت شعبيتهم إلى التحذير من التطرّف، لمغازلة قواعد انتخابية باتت تتشكّك، وبات عامل تأييد الفلسطينيين مؤثراً أساسياً
وكان استطلاع للرأي قد وجد أن أكثر من نصف أعضاء حزب المحافظين يرون في الإسلام تهديداً لأسلوب الحياة البريطاني، وأن النسبة نفسها منهم تؤمن بنظريات المؤامرة، وأكثر من 40% يحملون رؤية سلبية تجاه الإسلام. ذات النغمة كنا نسمعها في فترات تزايد هجمات الجهاديين في العواصم الغربية، وفي الخارج، وكان التوتّر يتزايد في بريطانيا آنذاك، ويعاد طرح مثل هذه الفرضيات (مثل استلاب الشوارع البريطانية من الإسلاميين)، وقد كانت تلك الفترات شهدت استقطاباً حادّاً، لا بل محاكم شرعية في بعض أحياء لندن، وأفراداً يفدون للقتال إلى سورية والعراق، وشباناً يمشون في دوريات راجلة بين الشوارع لمنع الخمر والمومسات، لكن الوضع حالياً يختلف بشكل كبير، والعامل الجديد بطبيعة الحال هو الحرب في غزّة.
يعمد المحافظون، كلما تراجعت شعبيتهم إلى الترهيب، بهذه النغمة، والتحذير من التطرّف، لمغازلة قواعد انتخابية باتت تتشكّك، وبات عامل تأييد الفلسطينيين مؤثراً أساسياً (هذا صحيح في الحالة الأميركية أيضاً مع اختلاف الأنظمة السياسية طبعا)، سواء من حيث دخول مؤيدين كثيرين لهم في سن التصويت، وبحكم توسّع دائرة المؤيدين من قطاعاتٍ جديدة. لكن في المقابل، اعتبر كثيرون موقف حزب العمّال، الذي كان أقرب لمناصرة القضايا العربية أو العالمثالثية (إلى حدّ ما)، "مُخزياً"، ولا أدلّ على ذلك إلا هتاف آلاف الحناجر في تظاهرات غزّة، وبصوت واحد "عار عليك يا كير ستامر" (زعيم الحزب"، بسبب موقفه المؤيد إسرائيل، بدرجة كبيرة. وبالتالي، ليس مستغرباً هذا الفوز الكاسح لغالاوي، ولا يستغرب أن يعتبره انتصاراً لموقفه من غزّة، التي ستتحوّل إلى عامل انتخابي أساسي، وهو ما يدفع حزب المحافظين، إلى استبعاد فكرة الانتخابات المبكّرة، بأي ثمن، ولكن هذا أيضاً يعني أنه يعبّر عن مواقف آنية، ولا تعني صعود تيار سياسي جديد بعد، بل شخصيات معارضة للمؤسّسة السياسية التقليدية، مثل غالاوي، سيشهدون صعوداً، دافعين التقليديين (من عمّال ومحافظين في الحالة البريطانية) إلى أساليب للحفاظ على الوضع القائم، ولا يبدو المشهد السياسي المقبل خالياً من التوترات.