غزّة في ثورة السوريين: التضامن العابر للأجيال
يتحدّث السوريون دائما إن القضية الفلسطينية قضيتهم وامتداد لانتمائهم ونضالهم العربي والإسلامي، على عكس ما يتبنّاه نظام الأسد وحزب الله وايران، وما يسمّى محور الممانعة عن دوره في محاربة إسرائيل. تتحدّث النخب السورية دائماً إن تاريخ القضية الفلسطينية في سورية جوهري في كيان المجتمع السوري، وفي إرث القادة والمقاومين السوريين الذين شاركوا في محاربة الاحتلالين الفرنسي والبريطاني، والعصابات التي مارست التطهير العرقي ضد الفلسطينيين منذ مطلع القرن العشرين. ففي أوائل 1930، أصبحت دمشق المقرّ الرئيسي والعملياتي للجنة المركزية للجهاد الوطني في فلسطين، والتي كانت الهيئة السياسية والتنظيمية الاسمية للثورة العربية في فلسطين، والتي انضوى تحتها عديدون من قادة الثورة في دمشق وعموم سورية، ومنهم فوزي القاوقجي وسعيد العاص ومحمد الأشمر. وكانت إحدى أهم مهامهم دعم الثورة عسكرياً ولوجستياً ومالياً، والقبض على المتعاونين مع القوات والعصابات الأجنبية في سورية وفلسطين. ولم تكن المشاركة هنا محصورة في القيادات الشامية أو الإسلامية، بل كانت ما تسمّى "المفرزة الشاميّة الدمشقية" بقيادة فوزي القاوقجي ومحمد الأشمر تقاتل إلى جانب المفرزتين الدرزيّة والعراقيّة. وكان معهم نخبة المجتمع السوري، أمثال الصحافي ومؤرّخ تاريخ الثورات العربية، منير الريّس، بالإضافة إلى وئام وهاب قائد كتيبة جبل العرب، والتي شاركت أيضاً في معارك 1948.
ومنذ بدايات الثورة السورية في 2011، ظلت فلسطين، وغزة تحديداً، حاضرة في مظاهرات السوريين وهتافاتهم ولافتاتهم ضد نظام بشّار الأسد. وتعكس مظاهرات السوريين منذ عامها الأول عمق الوعي تجاه القضية الفلسطينية وارتباطه بها، والتي كانت جلية في الجغرافيا السورية من ريف دمشق ودرعا جنوباً إلى حلب والرقّة والحسكة شمالاً، ومررواً بحمص وريفها، والتي دائماً ما أكدت على وحدة النضال الفلسطيني والسوري ضد الاحتلال والاستبداد، وعلى أن القاتل فيهما واحد، وإن تحدّث بلسانين، ليعكس السوريون بتضامنهم أن جروحهم وتهجيرهم وحصارهم ودمار بيوتهم لا تشغلهم عن مشاركة الفلسطينيين آلامهم وآمالهم.
مع احتدام العدوان والجرائم في غزّة، أوقف النظام المظاهرات ومنعها، خوفاً من تطوّرها إلى مناوئة له في ظل حملته الهمجية على إدلب
كان لصمود غزّة في العدوان الإسرائيلي عليها في العام 2012 حضورًا بارزًا في مظاهرات السوريين في مناطق عديدة، في ريف دمشق (القابون مثلا)، وريف حمص (الوعر)، وحلب (مساكن هنانو)، وشمال سورية في الحسكة (عامودا). وتضاعف زخم هذه المظاهرات والتضامن أكثر وضوحاً في أغلب المناطق السورية خلال العدوان الإسرائيلي على غزّة في 2014، وخصوصاً مع ازدياد سرديات نظام الأسد عن خيانة حركة حماس، وعن دفاعه عن مركزيته في محور المقاومة والصراع ضد الاحتلال الإسرائيلي. لقد تظاهر مئات في مناطق حلب وريف دمشق، بما فيها دوما المحاصرة، تضامناً مع غزّة في 2014 خلال العدوان الإسرائيلي ضد موقف نظام الأسد من المقاومة الفلسطينية، واتهامه فصائلها بنكران الجميل، لأنها رفضت التحالف معه ضد ثورة السوريين. وعلى الطرف المقابل، وبالروح والتضامن نفسيهما، كان أهل غزّة دائماً ما يتظاهرون تنديدا بالحصار والمجازر التي يتعرّض لها السوريون، وخصوصاً في أثناء حصار بابا عمرو في حمص ودوما في ريف دمشق ومجازر روسيا والنظام السوري في حلب وشمال سورية.
وخلال الحرب الراهنة في غزّة، ومع استمرار الاحتجاجات في السويداء بشكل شبه يومي في ساحاتها، يتضامن المحتجّون منذ بداية العدوان الإسرائيلي مع ضحايا غزّة، إلى جانب تضامنهم مع مناطق الشمال السوري في الحملة الشرسة التي تشنّها قوات الأسد وروسيا على إدلب وريفها. بالإضافة إلى المظاهرات التي تتضامن مع غزّة في المناطق المنكوبة في إدلب وريفها، وكل من درعا في جنوب البلاد والرقّة في شمال سورية.
يُظهر دعم القضية الفلسطينية مشهدا من ثورة السوريين ضد الظلم والتمييز في مختلف المستويات
والجانب الأهم في هذه المظاهرات في بلدات السويداء ودرعا وإدلب والشمال السوري أنها، وعبر هذه السنوات، أصبحت هي المنصّة والمنبر المركزي الذي يعبّر فيه السوريون عن رأيهم بمختلف انتماءاتهم وتياراتهم ومناطقهم، ولكنها أيضاً تجمع بينهم في القضايا المصيرية والمركزية بموقفهم تجاه نظام الأسد والقضية الفلسطينية ومطالبهم بالتغيير السياسي. وأحد أهم الشعارات الذائعة بين السوريين أن "الدم السوري والفلسطيني واحد"، وأن "من باع سورية لن يدافع عن غزة"، و"بشّار لنتنياهو: انتقم لي من حماس لأنني مشغول في ذبح الناس"، و"قسماً بربّ العزّة، بعد سورية على غزّة"، بالإضافة إلى الكاريكاتوريات التي تظهر بشّار الأسد صبيا عند إسرائيل وحكومة نتنياهو. ويمثل هذا عمق الوعي لدى السوريين، ويدحض ادّعاء نظام الأسد عن دعمه المقاومة الفلسطينية وخطابه ضد حركة حماس وخيانتها ونكرانها الجميل الذي قدّمه نظامه لها، وارتباط القضية الفلسطينية بقضية السوريين المتمثلة برفع الظلم والكرامة والحرية والعدالة.
من الناحية السياسية، يمكن فهم هذا التضامن مقطعا من نضال السوريين الشامل ضد القمع والاستبداد وارتباطهم بامتدادهم العربي، ومظهرا من الصراع العربي الإسرائيلي العابر للحدود والعابر للأجيال. حيث يركز السوريون على الحاجة إلى التغيير السياسي والتحوّل نحو نظام يحقق العدالة ويحترم حقوق الإنسان. ويُظهر دعم القضية الفلسطينية مشهدا من ثورة السوريين ضد الظلم والتمييز في مختلف المستويات.
وفي المناطق الثائرة عليه، في السويداء ودرعا، مضى النظام السوري في محاولات الدخول على خط شقّ صفوف المتظاهرين، تحت ستار التضامن مع أهالي غزّة، عبر محاولة إخراج مظاهرات مندّدة بالعدوان الإسرائيلي من الموالين له، لتكون بمثابة لبنةٍ على طريق إيجاد شارع مؤيد في مقابل الشارع المعارض له. ومع فشل هذه المحاولات، خرجت بعض المظاهرات تحت شعار التضامن مع غزّة. ومع احتدام العدوان والجرائم في غزّة، أوقف النظام جميع المظاهرات ومنعها، خوفاً من تطوّرها إلى مظاهرات مناوئة للنظام في ظلّ الحملة الهمجية على مناطق إدلب ومخيمات النازحين في شمال سورية.