غزّة حزينة... ولا أعياد
كأنّ العالم يقرأ عام 2023 في كتاب الحروب وأعياد الميلاد القديمة.
لمئات السنين، جاءت الإمبراطوريات والجيوش وذهبت إلى غزّة. لكن الخدمة المقدّسة في كنيسة القديس يورفيرلوس، منذ أيام الكهنة الأرثوذكس اليونانيين والطقوس، لم تتوقف، كما الحال مع سقوط القنابل واحتدام القتال. والعالم يرتدي ثياباً مزيّنة بالذهب لإقامة قدّاس هنا وهناك، وفي مزاج من التفاؤل، ليس بعيداً عن مؤتمرات الاستثمار والمناخ، يريد العالم أن يحقّق مصالحه بمعزلٍ عمّا يجري قريباً منه، ويعظّم منافعه الاقتصادية والمالية تحت عناوين مختلفة متقدّمة على حساب أرواح الناس والبؤساء.
أعلنت الولايات المتحدة وفرنسا، في مؤتمر المناخ (كوب 28) في دبي، أنّهما ستوقفان بناء محطّات كهرباء عاملة على الفحم، فيما يتحوّل الشعب الفلسطيني مع أعمال القصف الإسرائيلية إلى كتلٍ من نارٍ وفحم! وفيما أحدثت خطوةٌ من دول المنطقة لإعادة تأهيل الرئيس السوري، بشّار الأسد، بدعوته إلى القمّة ونظيره الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، سبباً لعدم ارتياح إضافي للقادة الغربيين ودعاة سلامة المناخ، بسبب فظائع النظام، واستمرار الإفلات من جرائم الحرب. كلتا الدعويين تثيران الازدراء لأنظمةٍ تسبّبت وتتسبّب بجرائم حربٍ مدمّرة للبلاد.
مؤتمرات الاستثمار والمناخ ومؤتمرات التمويل، وإنفاق مئات من المليارات على مشاريع إنتاجية، في وقتٍ يستمر الاستثمار في قتل الإنسان في فلسطين. وحين تتحوّل المحادثات عن مستقبل الاقتصاد العالمي والتطورات في مجال الذكاء الاصطناعي والتحوّل البيئي إلى المناقشات غير المحدودة في الموضوع في غزّة، والصراع المدمّر بين إسرائيل و"حماس". وفي وقت لا يستطيع العالم مواجهة غطرسة عنصرية إسرائيلية أعنف من غطرسة الطبيعة، وبخسائر تفوق خسائر الحرائق والكوارث. وتلك الطاقة المتجدّدة اليمينيّة المتطرّفة في القتل والتهجير وإبادة الجنس البشري، ما يعني كلّ موسم الأعياد. سيؤدّي تصاعد الحرب إلى صراع إقليمي أوسع إلى اضطراباتٍ في الاتجاه المعاكس للاستقرار الإقليمي الذي تحتاجه دول المنطقة، للمضي في عدد لا يحصى من المشاريع العملاقة التي ينفق عليها عشرات المليارات من الدولارات. ممتع رؤية طائرة من دون طيّار تصوّر مشاهد مراكز المؤتمرات في الأمكنة التي يجتمع فيها قادة العالم مرّة واحدة في السنة. عالم منفصلٌ تماماً، ما يجري هنا لم تحظ فيه الحرب بين إسرائيل و"حماس" إلا بالإشارة فقط، وعدم الرغبة في إجراء المقابلات. ما يجري في غزّة شيءٌ آخر.
العالم يعاني من الإفلاس الأخلاقي والانقسام والتزلف، ويتم التعبير عن إحباط من كلّ الاجتماعات
لم يترك استمرار الحرب أثره فقط في الشرق الأوسط، بل تجاوزه. سيكون أحد أكبر المخاطر التي تُواجه الاقتصادات الهشّة والمعتمدة على السياحة في مصر والأردن ولبنان، ويثير مخاوف من انتشار تأثيرها في جميع أنحاء الشرق الأوسط ومواسم انتخابية مقبلة في أميركا وأوروبا. الكل يراقب ما يجري على الهاتف والحاسوب. العالم على أطراف شفتيه، وعلى الخوارزميات لا يصدّق ما يجري في الواقع بأعنف من الرعب الإلكتروني، من صور قتلى وأشلاء وإضاءات قنابل فوسفورية وتفجيرات. هناك شعورٌ عميقٌ بالخوف من أنّ المستقبل العالمي أصبح غامضاً بالنسبة للكثيرين ممن يتأثرون بتقلبّات السياسة ومآسيها.
يكتظّ شهر الأعياد عادة بملايين السيّاح، في الأردن، حيث تمثل السياحة 15% من الناتج المحلي الإجمالي، أدّت الحرب إلى سلسلةٍ من عمليات الإلغاء، واختفت أكثر الحجوزات في عاصفة اقتصادية، مع تراجع حجوزات الفنادق والمنتجعات السياحية، وحركة التجارة والاستيراد والتصدير والاستثمارات، إلى الهمّ الوجودي.
في مصر، حيث لجأت الحكومة إلى صندوق النقد الدولي لتخفيف أزمتها الاقتصادية، ألغيت حجوزات سياحية عديدة في سيناء المتاخمة، ويزداد العبء على مجالات اقتصادية واجتماعية عديدة في حال نجح مخطّط إسرائيل بتهجير نصف سكان غزّة، وحصرهم على الحدود المصرية، فضلاً عن هرب المستثمرين، وتوقّف تنفيذ عقود الإعمار، وتخفيض وكالة ستاندرد آند بوروز تصنيف مصر الائتماني عند درجة "B" سلبي.
في لبنان، الاستعدادات لموسم الأعياد خجولة جداً لقطاع يساهم بنحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي، ويواجه حاليا خطر إقفال مطار رفيق الحريري، وسيناريو الحرب يخيّم على اقتصاد منهار. فلسطين، حيث النزيف الكبير للقطاعات الإنتاجية، تحتاج مليارات الدولارات لإعادة إعمارها في كفاحها من أجل الحرية. فيما طوفان الخسائر في اقتصاد إسرائيل على جميع الأصعدة بملايين الدولارات يومياً، وصلت إلى 30 مليار دولار، وتراجع توقّعات النمو إلى 1%، وعجز الموازنة إلى 4% في ضربة قاسية للاقتصاد، بموازاة خسائرها المعنوية والبشرية. وإسرائيل تعتمد كلياً على السياحة الخارجية، وعلى مساعدة أميركية بنحو 14 مليار دولار سنوياً. أميركا تموّل بعد انسحابها من أفغانستان حربين عالميتين إلى حرب التحوّل البيئية، لا تستطيع تمويل حربٍ ثالثة في تايوان.
متظاهرين كثيرون لا يعرفون كثيراً عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وما لم يكن يعرفونه عرضته عليهم إسرائيل بالبثّ المباشر
تعمل الدول الخليجية من أجل وقف كامل لإطلاق النار، وحذّرت من أن درجة الحرارة الإقليمية تقترب من نقطة الغليان، والمزيد من التصعيد حقيقي، ولم ترتفع أسعار النفط، بما يمكن أن يعزّز إيرادات الدول التي تأثّرت بتخفيضات إنتاج منظمة أوبك، مقابل انخفاض بتدفّقات الاستثمار الأجنبي، والتدخّل السياسي بأن تكون الأولوية هي للتنويع الاقتصادي. السوق العالمية متشائمة من التزام تعهدات "أوبك". وهذه هي الخسارة الكبرى. لقد جرى تذكير المصرفيين بقسوة بمركزية الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، على الرغم من توافر كبار المموّلين في مبادرات مستقبل الاستثمارات والمؤتمرات، في محاولة الاستفادة من صناديق الثروة السيادية والأصول المالية، أو النظر في الفرص المحلية (تصنيع السيارات الكهربائية).
يحدُث أن حاضرين عديدين في المؤتمرات كانوا يتلقون على هواتفهم المحمولة أخبار القتال، والتي، بحسب المسؤولين، يمكن أن تؤدّي إلى إبطاء خططهم التنموية. حرب غزّة مسؤولة عن هرب بعض رؤوس الأموال الروسية من قطاع العقارات في دبي، والحرب هي المسؤولة عن إلغاء رحلات سياحية غربية وأميركية إلى إسرائيل والمنطقة. سنة المخاطر الكبرى بالموازنات الغربية 2024، حتى الصين لم تبادر بسياسات اقتصادية أكثر جذرية في القطاع العقاري والتبادل التجاري لأسبابٍ سياسية. متوقّع أن يتجنّب كثيرون الشرق الأوسط، وإفساد فترة الأعياد المزدحمة، وتخفيف المبيعات، خصوصا السلع الفاخرة. فالمجتمع العالمي خائف مما سيأتي. يتحرّك العالم هذه المرّة في مكان آخر، في الشوارع والمدن ضد قتل الناس. لا يعرف متظاهرون كثيرون كثيراً عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وما لم يكن يعرفونه عرضته عليهم إسرائيل بالبثّ المباشر، ضحايا العيد، ووحشية الجريمة والإبادة. وجهة الإنسان حول العالم تغيّرت إلى سياحةٍ ساخنة مع الزلازل السياسية والاقتصادية بعد حرب غزّة المستمرّة.
العالم يعاني من الإفلاس الأخلاقي والانقسام والتزلف، ويتم التعبير عن إحباط من كلّ الاجتماعات.