غزو أوكرانيا وهشاشة الأمن الغذائي العربي
كشفَ غزو روسيا أوكرانيا مدى هشاشة الأمن الغذائي العربي، عندما صدرت قائمة من ثماني دول عربية قد تتعرّض للمجاعة نتيجة هذا الغزو وتأثيره على توريد القمح والذرة والشعير، وغيرها من مواد غذائية، إلى هذه الدول. ولا يتعلق الأمر بالتأثير المباشر لإمدادات المواد المذكورة من هاتين الدولتين وتخزينها، بقدر ما يتعلق بحقيقة فشل الدول الثماني، وغيرها من الدول العربية، في أن تكون مُنتجة لغذائها، وربما مصدّرة، خصوصاً في ظل توفر العوامل المساعدة لحصولها على مصدرٍ مستدام من الأغذية، من أراضٍ زراعية شاسعة ومناخٍ مناسبٍ ومراعٍ وموارد مائية كافية، لدى بعضها، وموارد بشرية ومالية واقتصادية، قد لا تتوفر مجتمعة لدى دول أخرى. ويعدّ هذا الفشل نتيجةً لسوء الإدارة، وانعكاساً مباشراً لتحوّل دول عربية كثيرة إلى دول ريعية، تفضّل الاقتراض من البنوك الغربية والاستيراد على الإنتاج والتصدير، بسبب ارتباط نُخَبها الحاكمة بالعقود الفاسدة التي يوفرها هذا النمط الاقتصادي بسهولة.
ولا تأتي الخطورة الكامنة خلف عملية استيراد المواد الغذائية من استنزافها الموارد المالية للدول المستوردة فحسب، بل من التوقف المفاجئ لسلاسل التوريد عند أي طارئ سياسي أو أمني أو حتى مرضي، كما حصل مرّات عدة قبل الحرب في أوكرانيا، فلا يعد غزو أوكرانيا الحادث الأول الذي أظهر إمكانية أن يقع هذا البلد العربي أو ذاك فريسة مجاعةٍ حقيقيةٍ، أو يصل إلى حدود المجاعة، بسبب عدم إنتاجه ما يكفي استهلاكه من الغذاء. إذ وقعت ما سمّيت "أزمة أسعار المواد الغذائية العالمية" التي بدأت سنة 2008 واستمرّت حتى سنة 2010، وتسبّب بها ارتفاع أسعار الحبوب والسكر وغيرها، وأدّت إلى حدوث قلاقل في أكثر من مكان. وقبل سنتين، اندلعت أزمة غذاء أخرى بسبب انتشار فيروس كورونا، وما سبّبه من نقص في الموارد المالية لدى دول عربية معتمدة على السياحة أو النفط في تأمين هذه الموارد، كذلك بسبب اتجاه الدول المنتجة إلى وقف عمليات التصدير أو تقييدها من أجل الاحتفاظ بها احتياطياً استراتيجياً خلال فترة الإقفال وإغلاق الأسواق، وهو أمرٌ دلّ على مدى ضعف الأمن الغذائي العربي يومها.
وإذا كان الأمن الغذائي يتحدّد بقدرة الحكومات على تأمين مخزونها من المواد الغذائية التي تكفي استهلاك مواطنيها فترة معينة، ويرتبط بوصول المواطنين السهل والكافي إلى طعام آمن ومغذٍّ، يلبي الاحتياجات المطلوبة للمحافظة على حياة صحية غير مهدّدة بالأمراض التي تنتج عن سوء التغذية، فلا يكون هذا الأمن مكيناً إلا عندما تمتلك الدولة القدرة على إنتاج المواد الأساسية من حبوب وبقوليات وغيرها، وفق روزنامة زراعية متوازنة، وعندما تكون لديها أيضاً القدرة على تخزينها وتصنيعها. وكذلك عندما تكون لديها استراتيجية فاعلة لتربية الحيوانات والطيور وتوفير الأعلاف والمراعي الخاصة لها.
أرقام وإحصاءات تفيد بازدياد نسبة واردات الدول العربية من المواد الغذائية عن السنة التي سبقتها، وهي نسب كبيرة تعادل مليارات الدولارات
وقد تَهدَّدَ هذا الأمن بفعل الحروب التي ضربت سورية وليبيا واليمن، وبفعل الاضطرابات التي سادت في أخرى، مثل السودان، وترافقت مع سوء إدارة الحكومات السودانية المتعاقبة قطاع الزراعة في دولةٍ تتوفر على أراضٍ وموارد مائية تجعلها قادرةً على إنتاج ما يكفي حاجات بقية الدول العربية مجتمعة من الغذاء. وتَهدَّدَ أيضاً بسبب تراجع بعض الحكومات عن اتباع سياسات التنمية المستدامة واستخدام طرق الزراعة والري الحديثة الموفرة للمياه، وهو ما ساهم، بالتضافر مع عوامل الطبيعة، في تراجع الغطاء النباتي والتصحّر وفقدان المصادر المائية. وفي دول عربية أخرى، له أسبابٌ مختلفة، منها عدم اعتمادها، في أي وقت، سياسات التنمية المستدامة، وكذلك تراجع دول أخرى عن مبدأ الإنتاج وتحوّلها إلى الاستيراد، إرضاءً لحفنة من أزلام بعض الأنظمة العربية التي تراكم ثرواتها عبر احتكار عمليات الاستيراد، والذي لا يستقيم إلا من خلال ضرب القطاعات الإنتاجية من زراعة وصناعة.
وسنة تلو الأخرى، تخرُج التقارير بأرقام وإحصاءات تفيد بازدياد نسبة واردات الدول العربية من المواد الغذائية عن السنة التي سبقتها، وهي نسب كبيرة تعادل مليارات الدولارات. كما تفيد بتحول دول عربية، خصوصاً دول خليجية، إلى الاعتماد شبه الكلي على الاستيراد لتأمين احتياجاتها من المواد الغذائية. وفي السنوات الأخيرة، ومع ازدياد اعتماد عدد من الدول العربية في وارداتها على القمح والشعير وغيره من أوكرانيا وروسيا، بسبب الفرق في سعره وفي تكاليف الشحن عن القمح الأميركي والكندي، فإن هذه الدول باتت في ورطة مع اندلاع الحرب أخيراً، فاقمها وقف أوكرانيا تصدير المواد الغذائية لمواجهة الطوارئ الغذائية، وفاقمتها أيضاً العقوبات الغربية والأميركية التي فُرضت على روسيا ومنعتها من تصدير منتجاتها.
توفر المال لن يفيد إذا فُقِدت السلع الغذائية، أو إذا حُبِسَت عن غير المنتجين
من جهة أخرى، وفي ظل الحقيقة التي تقول إن توفر المال لن يفيد إذا فُقِدت السلع الغذائية، أو إذا حُبِسَت عن غير المنتجين، يطرأ التساؤل الدائم بشأن إمكانية توجُّه الدول العربية الغنية إلى المساعدة في تسوية النزاعات في بعض الدول التي لديها أراضٍ خصبة وتستثمر فيها لتأمين احتياجاتها من المواد الغذائية، بدلاً من اعتمادها الكلي على الاستيراد من خارج المنطقة. وإضافة إلى ما لهذا الأمر من قدرةٍ على تقليل التكاليف عليها، فإنه يساهم في تحقيق التكامل بين الدول العربية، والذي إذا لم يخرُج من إطار الشعارات والخطابات الإنشائية منذ تأسيس جامعة الدول العربية، فإن الضرورات المستجدّة قد تفرض العمل وفقه.
إزاء هذا الواقع، ستجد الدول العربية نفسها مضطرّة للعمل بنظام الطوارئ الاقتصادية، لفعل كل ما يمكن فعله من أجل مواجهة تحدٍّ حقيقي، إذا ما نفدت مخازينها، وعجزت عن تأمين الحاجيات الأساسية. حينها ستتساوى الدول العربية الفقيرة مع الدول العربية الغنية في شحّ الموارد. وعندها ستتحوّل الأموال إلى مادّة بلا فائدة، وربما إلى عبءٍ على مكتنزيها الذين لم يوظفوها في مشاريع التنمية الحقيقية. في ذلك الوقت، ستصبح حتى برامج الحماية الاجتماعية التي تعتمد خلال الأزمات من أجل التصدّي لحالات العوز والفقر والضعف والتغلب عليها، لتقليل المخاطر التي تواجه المواطنين في ظل الظروف الخاصة، ومنها ندرة الموارد، غير قادرةٍ على كبح الانفجار الاجتماعي الذي سيأخذ شكل قلاقل وثورات. وإذا كانت الثورات العربية التي خرجت قبل 11 سنةً قد أُطلقت عليها تسميات من قبيل ثورة الكرامة وثورة الحرية وثورة الياسمين، فإن الثورات المقبلة في ظل الدوافع الجديدة ستكون لها تسمية واحدة هي ثورة الجياع.