غزة تُسقط التابوهات والسيناريوهات والأقنعة

04 فبراير 2024
+ الخط -

اقترب عدوان الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في غزّة من شهره الرابع، ولا تزال المقاومة صامدة، تقارع أعتى جيوش العالم، وأكثرها همجية. ورغم كل الدمار والقتل، فإن إرادة الشعب لم تُهزم، وكل الرهانات على التهجير خابت، وأهداف الحرب التي أعلنها رئيس وزراء إسرائيل، نتنياهو، ومن خلفه عصابته، لم تتحقق عسكرياً، أو سياسياً، فالمقاومة لم ترفع الرايات البيضاء استسلاماً، وصواريخ المقاومة لا تزال تطلق، وفشلت القوة العسكرية في تحرير الأسرى الإسرائيليين، أو العثور عليهم لتصنع انتصاراً ولو وهمياً.

تدحرجت كل السيناريوهات التي صاغتها مراكز الأبحاث والتفكير في واشنطن، وفي عواصم أخرى. وسقطت التنبؤات العسكرية، والاستخباراتية أمام مفاجآت المقاومة، وتهوي أسئلة ما بعد غزّة، وما بعد "حماس، على أرض الواقع، حتى إن هناك من طرح السؤال الآخر: ماذا بعد إسرائيل؟ وقد ينظر السياسيون إلى هذا السؤال بشكل ساخر، فإسرائيل تُدير ظهرها للعالم، وتفرض قانون القوة، وحتى بعد قرار محكمة العدل الدولية المثير للجدل، فإنها لا تلتفت إلى مراقبة العالم لها، ولا لمطالبات المحكمة لها بوقف شبهة الإبادة الجماعية، فهي تستمرّ في عمليات القتل في غزّة، وتتوسع بها في الضفة الغربية، وتواصل حصارها، وتمنع وصول الغذاء والدواء إلى غزّة، بل إن دولاً غربية عديدة تتواطأ معها بوقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، في خطوة تُفسّر عقاباً جماعياً للفلسطينيين، وتوجهاً مخالفاً لقرار محكمة العدل في القضية التي أقامتها دولة جنوب أفريقيا.

المتغيرات التي يجب أن تُقرأ بعيداً عن ساحات الحرب ترصدها استطلاعات الرأي، وهي تؤشّر إلى متغيّرات جذرية في مزاج الشارع العربي، وبالتأكيد الفلسطيني، ومواقف كثيرة ساد اعتقاد أنها تقادمت، ولم تعد تشغل بال الشارع العربي، عادت لتتصدّر المشهد، وتؤرّق العالم، وفي المقدمة أنظمة الحكم العربية التي ظهر غالبها عارياً منذ العدوان الإسرائيلي على غزّة.

إرادة الشعب الفلسطيني لم تُهزم، وكل الرهانات على التهجير خابت

وأصدر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أخيراً، استطلاعاً بعنوان "اتجاهات الرأي العام نحو الحرب الإسرائيلية على غزّة". وبالتوازي أصدر المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية استطلاعاً عن الحرب وهجوم "حماس" وتداعياتهما، وكشف الاستطلاعان نتائج مثيرة تفرض تغيير المقاربات السياسية في فلسطين والخارج.

شمل استطلاع المركز العربي عينة من 16 دولة عربية، وشارك به 16 ألف مستجيب، ونفذ من 12 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وحتى الخامس من يناير/ كانون الثاني الماضي، وأظهر أن 85% يتابعون الحرب، و97% يشعرون بضغط نفسي بسببها، والأهم أن 67% يرون أن هجوم "حماس" في 7 أكتوبر مقاومة مشروعة، ويراها 19% مقاومة مشروعة تخلّلتها أخطاء، وفقط 5% يعتقدون أنها عمل غير مشروع. وكان اعتقادٌ قد ساد في السنوات الماضية بأن القضية الفلسطينية لم تعد تشكّل اهتماماً عند الشارع، ولم تعد أولوية تحظى بالاهتمام، ولكن الحرب الإسرائيلية على غزّة كذّبته، فقد أصبحت فلسطين هي العنوان، ومركز الثقل السياسي، والإعلامي ليس في العالم العربي، وإنما في العالم. ويكشف الاستطلاع أن 92% يتضامنون مع فلسطين، و69% يتضامنون مع فلسطين وحماس، وفي الاتجاه نفسه، يرى 92% أن فلسطين قضية العرب.

تبدّدت كل مغانم قطار التطبيع منذ كامب ديفيد وما تبعها

تبدّدت كل مغانم قطار التطبيع منذ كامب ديفيد وما تبعها، من اتفاقية وادي عربة بين الأردن وإسرائيل، وما سبقها "أوسلو" مع الفلسطينيين، وجديدها الاتفاقيات التي سمّيت "أبراهام"، وكان الرهان أن تعمّ، فالاعتراف بإسرائيل أصبح تابوهاً برأي 89% من الشارع العربي، وفقط 4% يوافقون على الاعتراف بإسرائيل.

الدول الغربية، وأميركا في مقدّمتها، أول الخاسرين بعد العدوان الإسرائيلي، فاستمرار الحرب برأي 50% سببها الدعم العسكري، والسياسي الأميركي، و59% بعد الحرب باتوا متأكّدين أنه لا يمكن إقامة سلام مع إسرائيل، والأكثرية المطلقة ترى أن مواقف أميركا، وفرنسا، وبريطانيا، وألمانيا سلبية، وسيئة جداً خلال العدوان، وحتى روسيا والصين فإن 42% يرونها أيضاً سيئة... ويطالب الشارع العربي حكوماته أولاً بإلغاء اتفاقيات التطبيع، وكل العلاقات مع إسرائيل، ويليها إدخال المساعدات من دون موافقة إسرائيل، وهو القرار الذي اتخذته القمّة العربية الإسلامية، وفشلت في تطبيقه، ثم استخدام سلاح النفط، وبعد ذلك إنشاء تحالف عالمي لمقاطعة إسرائيل، وأخيراً تقديم دعم عسكري.

عاين استطلاع المركز الفلسطيني للبحوث السياسية المتغيّرات في غزّة والضفة الغربية، وأهم استخلاصاته اعتقاد الغالبية الفلسطينية بصحة قرار "حماس" في هجوم 7 أكتوبر، وأن إسرائيل لن تنجح في القضاء على المقاومة، وأن تأييد "حماس" تزايد بشكلٍ لافت حتى في الضفة الغربية، وهبوط حاد في تأييد السلطة الفلسطينية، والمطالبة باستقالة الرئيس محمود عبّاس. والموقف المعاكس للسياق السياسي طوال العقود الماضية منذ "أوسلو" أن مؤيدي خيار الكفاح المسلح يتزايد، والقناعة أن حلّ الدولتين ليس جدّياً.

الاستدلالات أن ما بعد الحرب ليس كما شاع قبلها، والنظريات، والسيناريوهات السياسية التي سادت، وأصبحت بديهياتٍ، لن تجد أقداماً لتمشي عليها

وفي لغة الأرقام، يعتقد 72% أن قرار حركة حماس بالهجوم كان صحيحاً، ويرى 95% أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب، ويجزم 89% أن "حماس" لم ترتكب جرائم حرب خلال هجومها، و70% واثقون أنها ستخرج منتصرة من الحرب، ويتوقع ثلثا المستجيبين للاستطلاع استمرار سيطرة "حماس" على غزّة.

ليس غريباً أن الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، لم يعد يحظى بالرضا، فـ 85% ليسوا راضين عن حكمه، و7% فقط سينتخبونه لو أجريت انتخابات، وستُعطي الغالبية أصواتها للقائد في سجون الاحتلال مروان البرغوثي بنسبة 47%، وسيحظى رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية بنسبة 43%. والمؤكد أن الحرب الإسرائيلية على غزّة ستطيح بالرئيس عبّاس الذي يُطالب 88% باستقالته، ويسود اعتقاد جازم في الكيان الصهيوني بأن نتنياهو، وقادة اليمين المتطرّف، سيخسرون أيضاً.

الاستدلالات أن ما بعد الحرب ليس كما شاع قبلها، والنظريات، والسيناريوهات السياسية التي سادت، وأصبحت بديهياتٍ، لن تجد أقداماً لتمشي عليها، فحين تجد أن 63% يرون أن الكفاح المسلح الطريق إلى إنهاء الاحتلال، فالمؤكد أن الخريطة التي رسمتها الدول الاستعمارية وشركاؤها تصطدم بالحائط، والقراءة الأكثر جذرية للصراع تُثبت أن الأجيال الشابة في الغرب قبل الشرق أصبحت تُناصر الحقّ الفلسطيني، ومظلومية الاحتلال التي كان يبيعها لم تعد بضاعة تُشترى، ومحاكمة إسرائيل الدولة التي تقف فوق القانون أصبحت ممكنة، وملاحقة قادتها على جرائمهم لم تعد أمراً مستحيلاً، فغزّة بقصة صمودها، وتضحياتها غيّرت العالم، وأسقطت كل الأقنعة إلى الأبد.

4544416F-44A0-42D5-A824-5B5A388EDF32
نضال منصور

الرئيس التنفيذي لمركز حماية وحرية الصحفيين، ومقره في عمّان، ناشر جريدة الحدث/وموقع عين نيوز، عضو اللجنة الاستشارية لحرية الصحافة/اليونسكو 2000-2003. حائز على جائزة "Hellmann Hammett" بترشيح من هيومن رايتس وتش عام 1998.