عين واشنطن على الأردن وعين نتنياهو على السعودية
بالرغم من تطرّف حكومة أقصى اليمين الإسرائيلية في المجاهرة قولاً، والاندفاع فعلاً، في سلب الأراضي الفلسطينية، ومحاولة تشريد شعبها، فإنّ هدف واشنطن الأول يبقى توسيع دائرة التطبيع العربي - الإسرائيلي، بل إنّها تبدو على عجلةٍ في ضمّ الأردن إلى قمة ملتقى النقب المقبلة، فيما يركّز رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، على السعودية، إذ يعتقد أنّ التطبيع معها هو الأساس لقبول كلّ العالم العربي بشروط إسرائيل.
واشنطن مستعجلة لتعميق التطبيع، قبل توسيعه حتى، خوفاً من تداعيات الإجراءات الإسرائيلية في القدس المحتلة والمسجد الأقصى على مشاريع التطبيع، أن تقوضها أو تجمّدها. ولذا، هي في حاجةٍ إلى مشاركة الأردن في قمّة النقب الثانية، حيث ضمّت القمة الأولى، العام الماضي، مصر وأقطاب المعاهدة التحالفية الإبراهيمية مع إسرائيل، الإمارات والبحرين والمغرب، وبخاصة بعد تهديد الملك عبد الله الثاني بأنّ أيّ تغيير في وضع القدس والأقصى سينقل العلاقة الأردنية - الإسرائيلية إلى حيز "الصراع".
وفي الحسابات الأميركية؛ حتى وإنْ لم ينفذ ملك الأردن تهديده بأي إجراءاتٍ، فتأثير التصريحات وحدها يزيد من تأجيج الغضب ضد إسرائيل، ويساهم في وضعها بصورة المعتدي أمام الرأي العام العالمي، وهذه أمورٌ قد لا تكون مهمة للمواطن العربي الذي يُطالب بموقفٍ واضحٍ وحاسمٍ مع الدولة الصهيونية، لكنّ واشنطن ترى في التصريحات الكلامية تشجيعاً، بل تحريضاً للشارع العربي الذي لم يعد يتحمّل ممارسات إسرائيل، والأهم سياسات المهادنة أو تلك المتواطئة مع تل أبيب، لأنّ جزءاً رئيساً في نجاح التطبيع وقف المصطلحات والخطابات العربية الاتهامية لإسرائيل، بغضّ النظر عن صدقيتها من عدمها.
الأطراف العربية المرتبطة باتفاقيات مع إسرائيل لا تزال تخشى أهداف إسرائيل
أما نتنياهو، فلا يبدي أيّ اهتمامٍ لا بالسلطة الفلسطينية ولا بالقصر الأردني، لأنّه يعتقد أنّ انضمام السعودية إلى معاهدة تطبيع يفوقهما أهمية، ويشكّل ضغطاً لقبول "أي حلٍّ تريده إسرائيل" وهو تقييمٌ لا يبتعد كثيراً عن تقييم الإدارة الأميركية، لكن الفرق بين الموقفين أنّ واشنطن تعتقد أنّ تهميش مخاوف الملك حيال وضع القدس سيجعل تحقيق هدف ضمّ السعودية أبعد، بخاصة أنّه من الصعب على الرياض الدخول في تطبيعٍ علنيٍّ فيما يسمح نتانياهو لوزير أمنه إيتمار بن غفير باقتحام باحات الأقصى، ولحلفائه في حزب الصهيونية الدينية بالتهديد الدائم بطرد كلّ الفلسطينيين.
يتطلّب حرص واشنطن على مشاركة الأردن في قمّة النقب تقديم تطميناتٍ للأردن بشأن القدس والمقدّسات الإسلامية، خصوصا أن الملك يرى أن تغيير الوضع القائم في القدس، وانتقال حزب الصهيونية الدينية من مرحلة الأقوال إلى أفعال كبيرة يمثلان خطراً وجودياً على استقرار الأردن ونظامه. ولذا؛ التحدّي أن تقدّم واشنطن ضمانات مقنعة، لأن ضمانات كاذبة وغير قابلة للتحقيق تتسبب بالغضب الشعبي والشعور بالخذلان. وتداعيات فشل الضمانات عملياً تعني تنفيذ إيتمار بن غفير أهدافه بالسماح لليهود بالصلاة في باحات الأقصى وإطلاق "الصهيونية الدينية" حملة مسلّحة لطرد الفلسطينيين، من خلال ترعيبهم بدعم من الجيش والحكومة، إذ لا يختلف نتنياهو مع شركائه في الأهداف، بل يرى أنّ هذا التحالف الحكومي يقدّم فرصة غير مسبوقة لإسرائيل بتصفية الحقوق الفلسطينية. لكنّه أيضاً يمثل تحدّياً للأردن الرسمي، فقبول الضمانات الأميركية والذهاب إلى قمة النقب فخّ سياسي خطير، فأولوية واشنطن ليست الضغط على إسرائيل بقوة، للالتزام بأيّ ضماناتٍ تقدّمها واشنطن، وإنما توظيف هذه "الضمانات"، المرفقة بالضغط على الأردن والسلطة الفلسطينية، حتى تصل هذه الأطراف إلى مرحلة التكيّف مع الإجراءات الإسرائيلية التي قد تكون تدريجية، ويبدأ حينها الأردن والسلطة بالمطالبة بالتزام إسرائيل بالضمانات، فيما تنفّذ إسرائيل مخطّطاتها، حتى ولو بوتيرة أبطأ مما يريدها نتنياهو، لإرضاء واشنطن، من دون تغيير خططه أو أهدافه.
صحيح أنّ واشنطن مهتمة باستقرار الأردن وعدم انهيار السلطة الفلسطينية، لكن ذلك لا يعني أنها لن تحاول إعطاء إبر تخدير مرحلية، بينما تستمرّ في إغلاق حلقة التطبيع العربي الإسرائيلي، قد يكون نتنياهو مستعجلاً ومقتنعاً بقدرته على عقد اتفاقٍ مع السعودية، لكنّ الإدارة الأميركية استنتجت، بعد زيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى المنطقة في يوليو/ تموز الماضي، أنّه ليس من السهل، بل من الصعب، على السعودية القبول بدخول معاهدة تطبيع رسمية مع إسرائيل، بحكم رعايتها الحرمين الشريفين، وتزايد الاعتداءات المتكرّرة على المسجد الأقصى يزيد قرار التطبيع تعقيداً وصعوبة. وتبين لإدارة بايدن، في حينه، أن معاهدات التطبيع حتى "الإبراهيمية"، رغم أنّها الأكثر استسلاماً وتماهياً مع ادعاءات إسرائيل، متحفّظة حيال فكرة الدخول في حلف عربي مع إسرائيل، ولم يلق اقتراح واشنطن دمج وحدات الصواريخ الإسرائيلية والعربية تحت قيادة أميركية أي تجاوبٍ يُذكَر، وفشلت أميركا بتسويقه تحت شعار "مواجهة إيران"، فسياسات إسرائيل وصعود المقاومة الفلسطينية الشعبية، في كلّ أشكالها، كانا عامليْن رادعيْن لأي حكومة عربية بقبول تحالف رسمي عسكري مع إسرائيل، فحتى الأطراف العربية المرتبطة باتفاقيات مع إسرائيل لا تزال تخشى أهداف إسرائيل، وإنْ كانت الإمارات تبدو أقلّ حظراً وأكثر اندفاعاً في تصديق الرواية الإسرائيلية إلى حدّ تأييدها بل تبنّيها.
هدف أميركا الوصول إلى التطبيع بين إسرائيل والسعودية، لإنهاء أي تردد أو تلكؤ أو أي مطالب عربية
بيّن مقال الكاتبة "أي اختلاف بين إدارة بايدن والحكومة الصهيونية" في "العربي الجديد" (8/1/2022)، أنّ واشنطن تعي أنّ التحالف الحكومي الإسرائيلي، وتجاوب نتنياهو في تسليم الوضع الأمني في الضفة والمستوطنات إلى الصهيونية الدينية ووزير الأمن إيتمار بن غفير، وسعي هؤلاء إلى كسر قرار محكمة الاستئناف الإسرائيلية تحريم صلاة اليهود في باحات المسجد الأقصى، تهدّد بانفجار فلسطيني وانتفاضة فلسطينية غير مسبوقة، لكنها، كما يتضح الآن، لن تسمح لذلك كله بوقف تعميق عملية التطبيع، بل إنّها تتحرّك، كما يبدو أنّ "الاجتماعات العربية - الإسرائيلية العلنية الرسمية هي سلاح نفسي وإعلامي لإيصال رسالة إلى الفلسطينيين بأنهم "وحدهم"، وأنّ على الرأي العام العربي أن يخضع... بل إنّ انعقاد الحلقة الثانية لـ"قمة النقب"، وإصرار أميركا على مشاركة الأردن، محاولة لإعطاء مصداقية لأي تطمينات أميركية بشأن القدس وردع إسرائيل عن ضم المستوطنات. ومن هنا، ينبع التركيز الأميركي على أهمية المشاركة الأردنية، وبالتالي؛ خطر مشاركة الأردن فيها، فواشنطن تريد توظيف مشاركة عمّان، بغض النظر عن صدقية أي التزام بأي ضماناتٍ تطلبها أميركا من إسرائيل، إذ لم يحدث أن التزمت إسرائيل بضماناتٍ أميركية، كما لم يحدث أن التزمت أميركا بضماناتٍ قدّمتها للفلسطينيين ولأي طرف عربي، ومن ينسى ذلك فسيدفع الثمن، وتدفع الشعوب العربية أثماناً.
في النهاية؛ هدف أميركا الوصول إلى التطبيع بين إسرائيل والسعودية، لإنهاء أي تردّد أو تلكؤ أو أي مطالب عربية، حتى لو كانت ضعيفةً، لكنّ الطريق إلى ذلك يمرّ من خلال إرضاخ كلّ دولة مرتبطة باتفاقيات مع إسرائيل، بعدم التشويش ولو بكلمات أو تصريحات. لكنّ واشنطن تتجاهل أنّ الشعب الفلسطيني، مدعوماً بمقاومته المتصاعدة، هو صاحب القرار.