عيد وكآبة مؤجّلة

02 مايو 2022

(إسماعيل كلجي)

+ الخط -

بعد مغادرتها دعوة إفطار رسمية حافلة بالمجاملات الفائضة، انطلقت السيدة الفضولية التي تروق لها ملامسة نبض الشارع إلى وسط البلد حيث الأشياء حقيقية. تجولت مطمئنة إلى حالة الأمان التي تتيح لها المشي طويلا من دون قلق، وقد أباحت لنفسها الانسياق مع مزاج الفرح الجماعي المصاحبة لليالي الأخيرة من شهر رمضان. هناك تخلع الكآبة عن روحها، كما لو كانت نعلاً قديماً أدمى قدميها، ترقب الأطفال بصحبة ذويهم، وهم ينتقون الملابس الجميلة، تستمع إليهم يتنافسون ويتفاخرون بأنّهم صاموا رمضان كاملاً، رغم العطش والجوع في النهارات الطويلة التي احتملوها بصبر، كي ينعموا بلحظة الانتصار يتوّجها عيدٌ يرتدون فيه ثيابهم الجديدة، ويحصلون على عيديّاتهم من الأقارب. 
تتأمل في زينة الشوارع المنصوبة أضواءً وأقماراً مضيئة، تبعث البهجة في الروح الحزينة. تضحك، وهي تراقب الصف الطويل أمام محل "حبيبة". الكلّ ينتظر دوره للحصول على طبق كنافة ساخنة بالجبنة الذائبة المزيّن بالفستق الحلبي، مضافاً إليه القطر شديد الحلاوة، تتساءل: ألم يكتفِ هؤلاء من صواني القطائف وأصناف الحلويات التي التهموها طوال الشهر؟! خطر ببالها بيت الشعر "فليتك تحلو والحياة مريرة...". فكّرت أنّ أولئك المصطفين في طابور الكنافة إنّما يتحايلون على المرّ الذى طغى على كلّ شيء في زمن الخيبة. يحاولون تجاهله تأهباً للعيد الوشيك، أيام معدودات يضعون فيها همومهم جانباً، وينهمكون في طقوسٍ جميلة حرموا منها أيام الحجر الكوروني الذي ألزمهم البيوت، وأبعدهم عن الأهل والأحبة. يتناسون أعباءهم المادّية الكثيرة، ويصرّون على الفرح، رغم  ضيق ذات اليد. 
اكتظاظ مروري، صخب كثير، وأصوات باعة الأرصفة يدللون على بضاعتهم على البسطات، قبل مداهمة كوادر أمانة العاصمة، حلقة من شبّان يتندّرون عن مصادقة مجلس النواب على قرار بفرض عقوبة الحبس على من تسوّل له نفسه الإقدام على الانتحار. تداري ابتسامتها وهي تعرج إلى مقهى ذكريات البلد، حيث اتفقت مع الصديقات على قضاء أمسية رمضانية أخيرة، كنّ منهمكات في لعب الورق، حتى أنهن لم ينتبهن لقدومها. جذبت مقعدها قائلة بحزم: "أمامكن عشر دقائق لإنهاء لعبتكن المملة"... وافقن ضاحكاتٍ، لأنهن يعرفن أنها لا تطيق الورق، حاولن كثيراً تعليمها، لكنّها كانت ترفض بشدة. استلت هاتفها وأخذت تتجول بين مقاطع فيديو خفيفة، محاولة تجنّب مشاهدة فيديو مجزرة حي التضامن في دمشق الذي انتشر بكثافة على مواقع التواصل، مع تغطية خجولة من الإعلام الرسمي. تعرف أنّ قلبها لن يحتمل كلّ تلك المشاهد الوحشية التي يتحدّث عنها الجميع، حيث يُساق مدنيون أبرياء إلى الإعدام رمياً بالرصاص بدم بارد وضمير ميت. ألقت الهاتف جانباً. قالت لصديقاتها المنهمكات في عالمهن الورقي إنّها تشعر بالتعب الشديد. مشت مسافة طويلة، ردّت إحداهن مازحة: "العضمة كبرت يا صديقتي". أجابت ثانية: "آه والله ختيرنا"! اشتدّ وطيس لعبة الهاند، واختلف الفريقان في أمر فنّي في اللعبة لم تفهمه، واتهمت المجموعة إحداهن بالغش. 
سرعان ما انتاب السيدة الفضولية الضجر. اعتذرت من الصديقات اللواتي لم يلتزمن بالاتفاق، وواصلن اللعب وقد سيطر عليهن الحماس. عادت إلى الشارع المكتظّ المزيّن شديد الإنارة. توقفت لها تاكسي بعد انتظار طويل بسبب الازدحام الشديد  في وسط البلد، قرّرت أن تحافظ على طاقتها الإيجابية مهما حدث، فليس من الحكمة أن تسمح للكآبة أن تسيطر عليها في العيد مثل العادة. سوف تؤجلها إلى حين، لن تستغرق في ذكريات الطفولة البعيدة، حين كان للعيد مذاق مختلف أكثر بساطة وأقل كلفة. ولن تشغل بالها بهموم الآخرين، ستعتني بهندامها وتستقبل الأحبة صبيحة العيد بابتسامة كبيرة، وهي تشعر بالامتنان على وجودهم في الحياة أصحّاء معافين، وربما تتطرّف قليلاً، فتغني مع الست "يا ليلة العيد أنستينا وجدّدتي الأمل فينا..".

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.