عيد الحب في بلد العيد
الأمر المزعج، المرعب، المفجع: أن يصل مَن يبحث في عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، في عيد الحب قبل 19 سنة، إلى قناعة؛ أن الحقّ كله على الحرية الموجودة في المجتمع اللبناني!
أيُّ حديثٍ عن تفاصيل الاغتيال، والتحقيقات الأولية، والمحكمة الدولية، وتوجيه الاتهام لإسرائيل، وحزب الله، والنظام السوري، سيبدو مُعاداً، لا يأتي بجديد... ولكن المشكلة، بل المعضلة، أن اغتياله لا يعدو كونه حلقة في سلسلة طويلة من الاغتيالات التي لا تزال مستمرّة.. وما يدعو إلى الدهشة، حقيقة، أن أي بحثٍ في الأسباب قد يوصلك إلى تلك الفكرة المرعبة، وضع الحقّ على الحرية، فلبنان؛ وهذا ما عرفناه منذ وعينا على الدنيا، كان ملاذاً للأحرار العرب، خيمة أخيرة، كما أنشد محمود درويش، نجمة أخيرة للمطارَدين والملاحقين والمغضوب عليهم في بلاد العرب، الرئة العربية التي أصيبت، وتعطّلت.
الكتاب الذي لم يكن يُسمح بدخوله إلى سورية، والعراق، ودول المغرب العربي (عدا مصر)، ودول الخليج، بالأخص السعودية، تجده في لبنان، المجلات التي كانت تدخل إلى سورية، عن طريق لبنان، كانت تلقى في مستودعات وزارة الإعلام في حي المزّة بدمشق، إلى حين أن يتمكّن الرقيب من قراءتها، ثم يأمر بنزع صفحات منها، قبل أن يأذن بإنزالها السوق في هيئة بائتة، وممزّقة... ولم يكن أمام المهتمين بمعرفة مضامين تلك الصفحات المنزوعة من المجلات سوى الذهاب إلى لبنان، وغالباً ما تنتابهم الدهشة، عندما يشاهدون أنها نُزعت لأسبابٍ تافهة. المقالات، والنصوص الأدبية، والكتب الفكرية المتجاوزة الخطوطَ الحمر التي يرسمها الرقيب (المكتوجي) في تلك البلدان، كانت تنشر في لبنان، وحدَه. ولعل مثالاً واحداً يكفينا للاستدلال على هذا التباين الذي يبدو كاريكاتيرياً؛ أن الكاتب ياسين رفاعية كان يكتب مقالة ذات سقف حرّية مرتفع، لإحدى الصحف اللبنانية، ويرسل المقالة نفسها، بعد تهذيبها، وتنقيحها، وفلترتها، إلى صحيفة البعث السورية، وذات مرّة، في أواخر التسعينيات، أخطأ فأرسل المقالة التي أعدّها للصحيفة اللبنانية إلى "البعث"، ونُشرت، وعلى أثرها أمر حافظ الأسد بسجن كل مَن له علاقة بنشرها من محرّرين، ومديري تحرير، ومنضدّين ومدققين لغويين، وعمال بوفيه، إلى أجل غير مسمّى!
كانت الدول العربية التي تحكمها أنظمة استبدادية، حديدية، تتعامل مع الحرية الموجودة في لبنان كما لو أنها نقيصة، أضف أنها كانت تُغري الحكّام العرب المستبدّين بالمساهمة في تخريب لبنان، فكان كلُّ واحدٍ منهم يموّل مجموعة تعمل لصالحه، ويسلحها، ويجعلها تتحرّك وفق أوامره، دواليك حتى أصبح "بلد العيد"، كما غنّت فيروز، "مزروعاً عَ الداير نار وبواريد"، وهذا لم يقتصر على العرب، فوجود إسرائيل، في هذه الجغرافيا التعيسة، أتى بالإيراني الذي يريد أن يصدّر ثورته إلى لبنان، وأسّس لما أطلقوا عليه اسم "سلاح المقاومة". وقد أصبح هذا السلاح متدخّلاً في الحياة السياسية اللبنانية، معطّلاً أي توافق محتمل، فارضاً شروطه على من يرضى ومن لا يرضى. ناهيك عن أن هذا الصراع جرّ على لبنان، البلد الصغير الطيب، في سنة 2006، عدواناً إسرائيلياً غاشماً، أدّى إلى تهديم المنازل والبنى التحتية في الجنوب، وتهجير مئات الألوف من أهله المساكين إلى الداخل اللبناني، وإلى سورية. ويوشك السيناريو نفسه يتكرّر اليوم، فلبنان في انتظار عدوان إسرائيلي مدمّر جديد، جعل معظم المسؤولين اللبنانيين يحذّرون حزب الله من جرّ لبنان الذي يعاني اليوم من وضع اقتصادي واجتماعي بائس لحرب لن يستطيع تحمّل تبعاتها.
صحيحٌ أن طبول الحرب تدقّ في مختلف أنحاء العالم اليوم، روسيا وأوكرانيا، والحرب على غزّة، وملاحقة أميركا الجماعات المسلحة التي تمولها إيران في سورية واليمن ولبنان والعراق، إلا أن بلاداً كثيرة تحتفل بعيد الحب، إلا هذا البلد الجميل لبنان، الذي تسميه فيروز: بلد العيد.