عود على بيوغرافيا قيس سعيّد حاكماً مطلق السلطات
قبل ما يزيد عن ثلاث سنوات، كانت بيوغرافيا قيس سعيّد، الرئيس التونسي المنتخب حديثاً (13 أكتوبر/تشرين الأول 2019) بأكثر من 72% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية الديمقراطية الثانية التي عرفتها تونس زمن الثورة، تتجلّى نقية لم تطمث عذريتها ممارسة السلطة والسياسة وتأثيراتها وإكراهاتها وخفاياها ولعبة مصالحها ورهانات لوبياتها، كما جاء في مقالنا في صحيفة وموقع العربي الجديد "بيوغرافيا الرئيس التونسي" (4-11-2019). كانت شهرة المساعد الجامعي سعيّد في عالم السياسة التونسية "أستاذ القانون الدستوري" بالرغم من عدم إنجازه أطروحة دكتوراه في هذا التخصص القانوني، وعدم ارتقائه في السلم الجامعي إلى أستاذ مساعد أو محاضر (مشارك) أو أستاذ تعليم عالٍ، يجوب البلاد طولاً وعرضاً طوال السنوات العشر الأولى التي تلت انهيار نظام بن علي يحاضر هنا وهناك في قضايا الثورة والانتقال الديمقراطي والدستور الجديد (2014) والمجلس الوطني التأسيسي (2011-2014) والبرلمان (2014-2019) وحدود سلطة كلّ منهما ودور الرئيس وصلاحياته ومختلف المسائل السياسية والدستورية، مقدّما نفسه في ثوب الواعظ القانوني والمبشّر السياسي بالفردوس الموعود، المتديّن التقي الورع الذي سينقذ تونس من المافيا المالية التي استحوذت على ثروات الشعب، ويحرّرها من الطبقة السياسية التي "ليس لها إلّا أن ترحل وإلى الأبد وبكلّ أطيافها الأغلبية والمعارضة"، حسب تصريح سعيّد نفسه يوم 25-7-2019، على هامش اغتيال النائب في المجلس الوطني التأسيسي محمد البراهمي.
وفي الوقت نقسه، لم يُلزم الرجل نفسَه بأي التزامات سياسية واضحة المعالم، يمكن أن تترجم برامج عملية واختيارات قابلة للتطبيق في هذا المجال أو ذاك، إلا من بعض الشعارات، مثل استثمار أموال رجال الأعمال الموصومين بالفساد في تنمية المناطق الأكثر فقرا بعد إبرام صلح جزائي معهم وفكرة البناء القاعدي الطوباوية المفتقدة إلى تصوّر عملي والشركات الأهلية المستنسخة من بعض دول أميركا اللاتينية التي تتخبّط في أزمات اقتصادية مزمنة. وقد انعكس ذلك على مشاركته في الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 التي انتصر فيها من دون تقديم أي برامج أو وعود انتخابية، حجّته في ذلك أن برنامجه يتلخّص في شعار "الشعب يريد"، وهو من سينفّذ ما يريده الشعب، بوصفه الرجل النظيف الذي لم تلوّثه "العشرية السوداء" الثورية، ولم يبتلّ بمياه بحارها، رغم أنه لم ينقطع عن السباحة بين أمواجها بوصفه خبيرا تم استقباله في أغلب منابرها الإعلامية المستفيدة من الحرّيات التي أتت بها الثورة التونسية، ومنتدياتها الأكاديمية والشعبية التي لم تعد تحتاج إلى ترخيص مسبق من السلطات السياسية والأمنية كما كان الأمر قبل 2011، واجتماعات ساستها ومؤسّساتها بالمجلس الوطني التأسيسي والبرلمان وقصر قرطاج ومختلف الوزارات، لتقديم نصائحه وخلاصة خبرته.
لم يُلزم سعيّد نفسه بأيّ التزامات سياسية واضحة المعالم، يمكن أن تترجم برامج عملية واختيارات قابلة للتطبيق في هذا المجال أو ذاك
لقد أظهر انتصار سعيّد الانتخابي سنة 2019 واستيلائه على السلطة بصفة مطلقة واحتكارها لنفسه ولخاصّته يوم 25 يوليو/تموز 2021 مدى سذاجة الطبقة السياسية ومختلف النخب التونسية الفكرية والحزبية والإعلامية والمدنية، الجمعياتية منها والنقابية، وحتى جمهور "السوشيال ميديا" الواسع المؤثر في الحياة العامة في تونس منذ 2011، وبساطة تفكير كل هذه الشرائح وطيبة نياتها التي كانت وراء أسلوب تعاملها مع القادم الجديد إلى قصر قرطاج ليتولّى الحكم خمس سنوات أو أكثر.
لم يتم الحفر في تجربة قيس سعيّد المجتمعية ومدى صحة ادعاءاته عن الاستقلالية ومثيلتها الأكاديمية ونجاحاته العلمية وخلفياته الفكرية وبراديغماته النظرية وتصوّراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمالية، وحتى تمثلاته التاريخية والدينية والثقافية التي تعكسها المادة الشحيحة التي كتبها قبل سنة 2019، تاريخ اعتلائه كرسي الرئاسة في تونس، من أغلب الفاعلين السياسيين وغير السياسيين، واكتفى الجميع باستهلاك صورة أستاذ القانون الدستوري النظيف الزاهد في حبّ السلطة، في حين أنه كان يُخفي لهفةً وشغفا بالحكم حدّ الهيام، وتمّ تسويقه من مكنةٍ خفيةٍ شديدة التأثير لها أذرع اتصالية (مجموعات فيسبوكية واسعة الانتشار منغلقة على نفسها لا يدخلها إلّا أوفياؤه)، وأخرى إعلامية ضاربة، كانت قوى نافذة وراءها باستراتيجياتها ومخطّطاتها التي تعمل على تحقيقها، وقد بدت واضحة الملامح فيما بعد في إجهاض التجربة الديمقراطية الفتية وإعادة إنتاج الدولة التسلّطية، واستطاعت أن تهزم شبكاتٍ ومكناتٍ ولوبياتٍ سياسيةٍ وحزبيةٍ عاتية من دون أن تشعرها بمرارة الهزيمة، وتدفعها إلى تبنّي مرشّحها، وأن تؤمّن له ما يكفي من الأصوات للفوز، وهو الذي سيطبق تعليماتها في القتل الرحيم لكلّ الطبقة السياسية والحزبية والمدنية وكل الأجسام الوسيطة. ومن هذه المكنات مكنة الإسلام السياسي النهضوية التي رشّحت عبد الفتاح مورو لمنصب الرئيس، ونظيرتها التجمّعية والدستورية التي راهنت على أسماء عديدة للوصول إلى الدور الثاني من الانتخابات، ولم تتمكّن من تأمين فوز أي منهم مثل عبير موسي وعبد الكريم الزبيدي ويوسف الشاهد. ولقد بات من الصعب تصديق القول الذي انتشر بين الناس، بفعل تأثير المكنة المذكورة، أن سعيّد تمكّن من كرسي الحكم بواسطة حملة انتخابية قوامها بعض الدنانير والجلوس في المقاهي الشعبية والاكتفاء باستهلاك فنجان من القهوة وقارورة ماء معدني. واصل سعيّد في تنويم الطبقة السياسية ومختلف الفاعلين في المجتمع ورؤساء الوفود الأجنبية الذين سارعوا جميعاً إلى قصر باردو للاحتفاء به رئيسا تم انتخابه ديمقراطياً يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 2019.
قيس سعيّد هو من نسف الشرعية المُجمع حولها من مختلف الطيف السياسي التونسي، وعوّضها بشرعيته الخاصة التي لا يعترف بها إلا من والاه على قلّتهم
في ذلك اليوم المشهود الذي كانت أحداثه تُنقل تلفزيونياً، ويتابعه جلّ التونسيين ومختلف الفاعلين السياسيين في العالم، وضع سعيّد يده على القرآن العظيم وأقسم طبقا لما جاء في الفصل 76 من دستور 2014 قائلا "أقسم بالله العظيم أن أحافظ على استقلال تونس وسلامة ترابها، وأن أحترم دستورها وتشريعاتها، وأن أرعى مصالحها، وأن ألتزم بها". وقد تمّ ذلك في حضرة نواب البرلمان، الدورة النيابية 2014-2019، وبحضور رئيس الحكومة وأعضائها وقادة الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية والرؤساء السابقين ورؤساء الحكومات المنتهية عهدتهم والشخصيات الوطنية وممثلي الدول العربية والأجنبية وسفرائها وكل من مفتي الجمهورية التونسية وكبير أحبار اليهود ورئيس الأساقفة في تونس. كان هذا الملأ الذي يعكس فسيفساء تونس وتنوّعها واختلافها وتعدّدها، شهودا على ما التزم به سعيّد في كلمته التي ألقاها 25 دقيقة من "احترام كامل للشرعية" فإذا به يستبدلها بمشروعيةٍ لا أساس دستوريا أو قانونيا لها، والتحوّل من "دولة القانون إلى مجتمع القانون" ليستفيق التونسيون على إبطال العمل بسيّد القوانين دستور البلاد لسنة 2014، واستبداله بدستور 2022 الذي كتبه شخص واحد، ولم يتداول فيه أحد غيره، وتحويل "مجتمع القانون" المزعوم إلى حديقة خلفية للرئيس، يسيّرها بواسطة المراسيم والأوامر الرئاسية، بعد منح المناصب الحكومية لشيعته المقرّبين، واضعاً الدولة برمّتها على مرمى أخطار جسيمة تهدّدها، وهو الذي اعتبر الحفاظ عليها أمانة من الأمانات التي لا بدّ من الإيفاء بها.
وينطبق الأمر ذاته على "مكتسبات المجموعة الوطنية وثرواتها" التي تضيع وتُنهب يوماً بعد يوم، من دون وجود خطة حكومية لحمايتها أو تغيير القوانين والتشريعات ووضع الاستراتيجيات لاسترجاعها. وقد لاحظ المهتمون بالشأن العام التونسي سهولة تجديد ومنح رخص التنقيب عن البترول والغاز التي يمنحها سعيّد في شكل مراسيم رئاسية، بعد أن كانت تلك التراخيص تلقى مناقشة متأنية ودقيقة معلنة للرأي العام، وتثبت في مجلس نواب الشعب قبل تمكين الشركات المعنية الضالع بعضها في نهب الثروات التونسية، وكذلك هو الأمر بالنسبة لمختلف الثروات من ملح وجبس ورخام ومنتوجات زراعية، وخصوصا زيت الزيتون، وبحرية وغير فلاحيةٍ بقيت محكومةً باتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لسنة 1995 البالية، والجائرة التي تتحكّم في رقاب منتجي الثروة التونسية، من دون أي إشارةٍ من الرئيس طوال ثلاث سنوات إلى إمكانية مراجعتها، عطفاً لما قاله في خطاب التولي إنّ "الدولة التونسية ملتزمة بكلّ معاهداتها الدولية، وإن كان من حقّها أن تطالب بتطويرها في الاتجاه الذي يراعي مصالح شعبنا".
باتت الدولة مهددة في استقلالها، لارتهانها مالياً لدى القوى المالية الدولية وعجز سياسات سعيّد عن إيقاف هذا النزيف القاتل
لم يكن لكلام الرئيس سعيّد معنى، عندما ارتفع صوته قائلا "الحرية التي دفع شعبنا ثمنها غاليا من أجل الوصول إليها وممارستها في إطار الشرعية لن يقدر أحدٌ على سلبه إياها"، فهو من نسف تلك الشرعية المُجمع حولها من مختلف الطيف السياسي التونسي، وعوّضها بشرعيته الخاصة التي لا يعترف بها إلا من والاه على قلّتهم. وهو من ضرب في مقتل مكسب الحريات العامة والخاصة الثمين نتاج ضريبة الدم التي دُفعت لأجله بعد إصداره المرسوم عدد 54 لسنة 2022 القامع للحقوق والحرّيات، واضعا المجتمع السياسي وغير السياسي تحت طائلة القضاء والرقابة الأمنية والمحاكم العسكرية، وقد جاءت مخرجات هذا القانون سريعةً بتطبيقه على أصحاب الرأي من الطيف السياسي والإعلامي المختلف المعارض في انتظار ما سيطاول غيرهم من الموالاة. لم يصدُق رئيس الجمهورية أيضا في موضوع المرأة التي وعدها بعدم المساس بحقوقها، بل "مزيد دعم تلك الحقوق"، فإذا به يُخرجها من الحياة السياسية ويهمّش دورها ويعيدها سنواتٍ إلى الوراء، عندما أصدر مرسوما انتخابيا يجعل من المرأة وسيلة لجمع التزكيات، ويحرمها من الولوج إلى مجلس تشريعي تشي المعطيات الانتخابية بأنه سيكون ذكورياً بامتياز.
تعهّد الرئيس بأن "المسؤولية الأولى لرئيس الجمهورية أن يكون رمزاً لوحدتها، ضامناً لاستقلاليتها ولاستمراريتها، وساهراً على احترام دستورها، عليه أن يكون جامعاً، وعليه أن يعلو فوق كلّ الصراعات". لكنّه نكث في عهده وتنكّر لوعوده باحترام الدستور، ولم يكن جامعاً البتة، ولم يعلُ فوق الصراعات، بل كان مقسّماً صاحب معجم سياسي عنيف اتهامي، ناعتاً الآخر المختلف أو المنافس بأشدّ النعوت بشاعةً وأقذعها شتيمةً، على شاكلة الجراثيم والخونة والعملاء والمتآمرين والانتهازيين. وفي عهد حكمه المطلق، باتت الدولة مهدّدة في استقلالها لارتهانها مالياً لدى القوى المالية الدولية وعجز سياساته عن إيقاف هذا النزيف القاتل، ونالها من الضعف والوهن ما لم تعرفه في تاريخها ما بعد الاستعمار، وتراجعت وظائفها حتى انتشرت الأفكار المشكّكة في استمراريتها، لعدم قدرتها على تأمين حاجات الناس الأساسية وتوفير المواد التموينية والأدوية وحمايتهم من الفاقة والفقر والجوع والمرض وإبعاد الخوف والهلع الذي ألمّ بهم طوال فترة حكم الرئيس قيس سعيّد حاكماً مطلق السلطات في تونس الجمهورية التي أصبح نظامُها شبيهاً بالملكيات غير الدستورية.