عن "مواطنين شرفاء" في تونس
كأنّ بشاعات انقلاب قيس سعيّد على الدستور والنظام السياسي في تونس لا تفي بالغرض، حتى تقدم مشاهد أنصاره من "المواطنين الشرفاء" طَبقاً إضافياً من القبح على مائدة التسلّط والشعبوية وخطاب الكراهية وممارساتها. منذ بدأ الرجل تنفيذ انقلابه في 25 يوليو/ تموز، تتنقل بنا صور شبّيحته من وسط العاصمة إلى المناطق، وقد استضافت سيدي بوزيد آخر الفصول. وكحال كل ظاهرة شعبوية، تظهر "الحشود العفوية" كلما خرج قيس سعيد في منطقة ما وقرّر أن يتلو أحد خطاباته المستقاة من معاجم الحشرات والطب والفاشية في تقسيم التونسيين بين شرفاء وأنذال، وطنيين ومأجورين، مؤمنين ومغرر بهم، أشرار وأخيار. و"المواطنون الشرفاء" ليسوا ظاهرة خاصة بتونس بالطبع، فحيث يكون هناك تسلط وشعبوية، تحضر هذه الفئة بالضرورة. كما أن الظاهرة ليست محصورة بقيس سعيّد، فقد سبق لأحزاب حكمت أو شاركت في الحكم أن ارتكبت هواية الترهيب، وما مشاهد "لجان" حركة النهضة ببعيدة عن الذاكرة. لكن لسبب ما، يبقى "مواطنو" قيس سعيّد "الشرفاء" حالة خاصة تكرّس ما يُعرف في أدبيات الحكم التسلطي بـ"الأنصار" التوّاقين إلى حمل السلاح دفاعاً عن مثالهم الأعلى في السلطة، أو "الأهالي" الذين يغضبون بكبسة زرّ، دائماً بعفوية كما يُقال، أو "الحزام الشعبي" الذي يتألف غالباً من فئات مواطنين مهمشين اجتماعياً، فقراء (ومن قال إن الفقراء على حقّ بالفطرة، أو أنهم يستحقون التضامن دائماً؟) تستهويهم خطابات التحريض، وتغذي مشاعر القوة المكبوتة في داخلهم.
والمواطنون الشرفاء قد يكونون أخطر ما يرافق مسار الانقلاب حين يحصل على مراحل، مثلما هو حال تونس هذه الأيام. هؤلاء المدنيون الذين تحركهم الغريزة و/أو الحقد و/أو الأجهزة الأمنية يشعرون بفائض قوة ينذر بوقوع اشتباكات مع الطرف الآخر قد يتحول في أي لحظة إلى اقتتال أهلي في حال توفر السلاح الحربي. حتى لو لم يتوفر، فإن الاستقطاب الحاد يبقى راسخاً بين الجار وجاره. والمعلوم أن هناك حدوداً لضبط النفس عند من يتجرّأون على النزول إلى الشارع للتنديد بالانقلاب أو بالحكم الفردي أو بالمس بالدستور، ويتعرضون لاعتداءات "الشرفاء". ثم كلما كبر عدد أفراد المعسكرين، زادت احتمالات الصدام. وتقدم التسجيلات المصورة منذ 25 يوليو في تونس مادة غنية للتحليل بالنسبة لعلماء النفس. عدد كبير من أنصار قيس سعيّد صارت وجوههم وملامحهم تتكرر في المناطق التي يختارها الرئيس ليقول العبارات نفسها: أنا الخيّر والآخرون هم الأشرار. أنا الدواء وهم الجراثيم. أنا الصواريخ وأنتم منصّاتها بينما هم المرض الذي يجدر استئصاله... وعلى هذه الأهازيج، يتمايل الأنصار بعيون تبحث عن عدو مفترض للنيْل منه. وفي كل مرة، يرمي قيس سعيد كلمات تثبت إما أنه يستخف بعقول ناسه قبل خصومه، عبر ادعائه بأن جماهيره تتحرك بعفوية موصوفة وتلاحقه مثلما يجذب الرحيق النحل، أو أنه يظن أن جبروته صار كافياً ليسمح له بتقليد أعتى الطغاة بما أنّ ليس هناك من يسائله ويضع حداً لهوس التسلط لديه.
كلما تأخر إحباط المسار الانقلابي في تونس، أمكن توقع تفاقم ظاهرة المواطنين الشرفاء. هكذا حصل في مصر حتى أصبح هؤلاء وكأنهم أصحاب صكوك إلهية تخولهم ملاحقة معارضي رئيسهم في الشوارع وفي المنازل بعدما كانوا مجرّد فرق كشّافة تسير أمام قوات الأمن لكي يدلّوها على متهم ضُبط بالجرم المشهود: معارِض. والأهم من هذا وذاك، هو ألا يتحول المواطنون المضطهدون اليوم من قبل الشبيحة، إلى بلطجية انتقاميين غداً عندما تُطوى تلك الصفحة السوداء من تاريخ تونس.
لا انقلابات ولا أنظمة قمعية من دون "مواطنين شرفاء". كم كثيرة هي المرات التي تنقلب فيها معاني الكلمات. أمام هذا المفهوم لـ"المواطنون الشرفاء"، يصبح انعدام الشرف فضيلة.