عن محاكمة محمد ولد عبد العزيز في موريتانيا
يعدّ الفساد أكبر تحدٍّ للتنمية في دول العالم الثالث، إذ يمثل نحو 10% من الدخل القومي لهذه الدول، ويقوّض مشاريع التنمية الوطنية، ويُضعف ثقة المواطنين بالحكومة والمنتخبين، ويوهن البناء الديمقراطي ويصيبه في مقتل، وهو إضعاف المؤسسات. ليست موريتانيا استثناءً، حيث تتبوأ مكانا متأخّرا 140 من 180 دولة، حسب تقرير مدركات الفساد الذي أصدرته منظمّة الشفافية الدولية في السنة 2021. كما أنها حلّت في الرتبة 125 من أصل 130 دولة، حسب مؤشّر سيادة دولة القانون لسنة 2021.
ولئن كانت محاكمة الرؤساء قد جرت في عدة دول كالسودان وجنوب إفريقيا وبيرو وفرنسا فإنها نادرة جدا في محيط موريتانيا الأفريقي والعربي. لذا فهي تكتسب أهمية لعدة اعتبارات منها الأشخاص المعنيون والموضوع (الفساد) والتوقيت (قبل الاستحقاقات الانتخابية بمستوياتها المختلفة). فمن أهم المتهمين رئيس الدولة الذي خرج من السلطة سلميا على أثر انتخابات زكّاها المراقبون الدوليون، وقبلت بها المعارضة الوطنية. أما الموضوع فهو الفساد المتعلق بتبييض الأموال والإثراء غير المشروع واستغلال النفوذ وتبديد المال العام.
بدأت محاكمة الرئيس السابق، محمد ولد عبد العزيز، أمام محكمة الجرائم الاقتصادية، مع أركان في حكمه، يشمل رئيسي حكومة سابقين ووزراء سابقين ومسؤولين كبار آخرين، يوم 25 يناير /كانون الثاني الحالي. وقد وُجّهت إلى هؤلاء تهم فساد، على أثر تقرير لجنة تحقيق برلمانية شكّلت في 2019 للتحقيق في تسيير الحكومات السابقة ملفّات تهم الرأي العام في فترة حكم الرئيس السابق من 2008 إلى 2019. وكانت اللجنة قد أصدرت، في يوليو/ تموز 2020، تقريرها في 800 صفحة، واستعانت في إعداده بمكاتب دولية للخبرة. وقد تناول التقرير بقدرٍ من التفصيل منح العقود العامة وبيع الأراضي العامة، وإدارة قطاعات الاقتصاد الرئيسية، سواء كانت النفط أو الطاقة المتجدّدة أو الموانئ أو صيد الأسماك، وما إلى ذلك، كصفقة الحاويات، وتبديد ممتلكات الدولة، التربّح، وصفقة الشركة الصينية بولهندون المجحفة بموريتانيا في مجال دقيق السمك وزيته، وغسل الأموال، الاستحواذ على ممتلكات عمومية بطرق غير مشروعة، وعرقلة سير العدالة.
هيئة الدفاع عن الرئيس السابق تضم نحو 30 محاميا، منهم أجانب، استقدموا من فرنسا ولبنان والسنغال
رافقت افتتاح المحاكمة تعقيداتٌ تتعلق بالإجراءات الأمنية الشديدة لدخول قصر العدالة وقاعة المحاكمة التي لا يُسمح فيها بالتسجيل ولا التصوير. وكان عدد المتهمين عشرة، بينما أعلن أنّ آخر في حالة فرار، رغم أنه في سفر للعلاج في إسبانيا. وزاد في تأخير بدء المحاكمة احتجاج محامي دفاع الرئيس السابق على أماكن جلوسهم في القاعة، وكذلك على السماح لمنظمات المجتمع المدني العاملة في حقل محاربة الفساد بحضور المحاكمة، وهو الأمر الذي نجحوا فيه بمنع هذه المنظمات من الحضور. ورفعت الجلسة في نهاية اليوم الأول للمحاكمة نظراً لغياب محامي الرئيس السابق. ثم استأنفت المحكمة عملها في اليوم الثاني الذي لم يخلُ هو الآخر من إجراءات أمنية روتينية. تجدر الإشارة إلى أنّ هيئة الدفاع عن الرئيس السابق تضم نحو 30 محاميا، منهم أجانب، استقدموا من فرنسا ولبنان والسنغال. وقد تناولوا الكلام تباعاً واتفقوا، وإنْ بتعابير مختلفة، على ضرورة إطلاق سراح موكلهم.
ومن المتوقع أن يُستمع للرئيس السابق وللشهود الذين استدعوا لشهادتهم، ومن أهمهم وزير الاقتصاد والمالية والذي تميز بولائه الشديد للرئيس السابق في أثناء حكمه إلى درجة أنه يدعى صندوقه الأسود. وقد تكون شهادة هذا الوزير ضد رئيسه السابق ثمناً لخروجه من دائرة الاتهام التي يصعُب على الرأي العام تصديق قبول إبعاده منها. ومن المتوقع أن يدفع محامو الرئيس السابق ببراءته وبعدم اختصاص المحكمة وبحصانة موكلهم، تمسّكاً بالمادة 93 التي تنصّ على عدم مسؤولية الرئيس عما يقوم به من أعمال في أثناء مأموريته، وأنّ محكمة العدل السامية وحدها المختصّة بمحاكمة الرئيس، وفي حالة الخيانة العظمى فقط. أما محامو الطرف المدني فيدفعون باختصاص المحكمة، حيث يفرّقون بين الأعمال التي يقوم بها الرئيس في إطار مهامه الاعتيادية والأعمال غير المرتبطة بوظيفته، كالتجارة واستغلال النفوذ، خصوصاً أنّ الرئيس السابق أقرّ مرّات بأنه ثري، وأنه لم ينفق من راتبه خلال فترة حكمه، ما يبيح التساؤل عن مصدر الثروة المذكورة.
حجم الملف الذي تحدّث عنه محامو ولد عبد العزيز بلغ ثمانية آلاف صفحة والمحجوزات لدى المحكمة لا تشي بأن التبرئة واردة
ترى ما هو المصير المرتقب للرئيس السابق على أثر المحاكمة؟ هل سيكون مثل مصير الرئيس السوداني، عمر البشير، الذي حكم عليه بالسجن سنتين، بعد أن اعترف بتلقي نحو 90 مليون دولار من السعودية، مع نفي ثرائه بهذه الأموال؟ أم مصير رئيس جنوب إفريقيا السابق، جاكوب زوما، الذي اتهم بقائمة طويلة جدًا من الفضائح المالية، تشمل "الاستيلاء على موارد الدولة" ، واختلاس أموالها وقد حكمت عليه المحكمة الدستورية في عام 2016 لسداد 420 ألف دولار؟ أم مصير الرئيس البيروفي السابق، ألبرتو فوجيموري، المتهم بارتكاب الفساد وانتهاك حقوق الإنسان، حكم عليه سنة 2009 بالسجن سبع سنوات ونصف سنة بتهمة الاختلاس، بعد اعترافه بتقديم 15 مليون دولار من خزينة بيرو إلى رئيس جهاز استخباراته، وبعد شهرين وفي محاكمة رابعة، أقرّ بأنه مذنب بالرشوة، وتلقى حكمًا بفترة سجن إضافية مدّتها ست سنوات؟ أم سيكون مصير الرئيس الموريتاني السابق مصير الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، الذي يعيش تقاعده السياسي تحت ضغط قانوني. وحكم عليه في 1 مارس/ آذار 2021 بالسجن ثلاث سنوات، اثنتين منها مع وقف التنفيذ، بتهمة الفساد واستغلال النفوذ فيما تُسمّى بقضية التنصّت، وهي الأولى لرئيس الجمهورية الخامسة. عُقدت محاكمة الاستئناف في هذه القضية في أوائل ديسمبر/ كانون الأول 2022؟ أم إن الرئيس السابق سيُبرّأ من التهم التي أسندت إليه، ويعوّض له عما لحقه من ضررين، جسدي ومعنوي، وبمحيطه العائلي والاجتماعي؟
حجم الملف الذي تحدّث عنه محامو محمد ولد عبد العزيز بلغ ثمانية آلاف صفحة والمحجوزات لدى المحكمة لا تشي بأن التبرئة واردة، وإن كانت هي الأصل. وربما يكون الأرجح أن يكون الحكم منزلة بين المنزلتين، تقضي بحكم أقرب للتخفيف بالسجن فترة لا تقلّ عن خمس سنوات، مع استرجاع أموالٍ ثبت أنها في حوزة الرجل من غير وجه حقّ. إذ أفادت النيابة أن المبالغ المحجوزة للرئيس السابق قد بلغت أكثر من مليار دولار، تشمل أرصدة بحساباتٍ بنكيةٍ وعقاراتٍ وشركات وممتلكات أخرى.
وفي الخلاصة، تكتسي هذه المحاكمة أهمية كبرى، فالعالم ينتظر نتائجها ومدى شفافيتها ومواءمتها للممارسات الدولية المثلى، حيث تقبل موريتانيا على دخول نادي الدول المصدّرة للغاز في نهاية السنة الجارية، كما أنّ إنتاج الذهب والمعادن الأخرى يجعلها وجهةً محتملة للمستثمرين الأجانب الذين يولون عناية كبيرة للعدالة في الدول التي يتدخّلون فيها. وستشهد موريتانيا استحقاقاتٍ انتخابية بلدية وجهوية ونيابية ورئاسية، من المرجّح أن تحتل فيها محاربة الفساد وتقوية النظام القضائي مكانة فائقة. وبذلك، تكون الدولة الموريتانية قد حققت إنجازاً كبيراً يُضاف إلى البناء الديمقراطي الناشئ والغني، رغم ما يعرف من تحدّيات.