عن محارق الكتب ومحارق الأفكار

17 مايو 2023

(تريندليك فاسيلي)

+ الخط -

لا أتذكّر اسم الحكيم الذي نصح ابنه بألّا يلتمس الحكمة من تجربته في الحياة فقط، بل عليه أن يلتمسها من تجارب الآخرين أيضاً، لكنّ تجارب الآخرين لن يجدها سوى في الكتب. وللأسف، الطغاة والدكتاتوريون عادة ما يدركون هذه النصيحة، ولذلك فإنّ واحدةً من خططهم الشريرة التي يعملون على تحقيقها هي حرق الكتب التي تحمل أفكار التمرّد والثورة، والتي تبشر بالتغيير، وتطرح ما يخالف السائد، وقد لا تكون عملية صنع المحارق وإيقاد النار هي الوسيلة الوحيدة التي قد تضمن حجب الأفكار الحرّة عن الناس إلى حينٍ معلوم، فقد تكفلت التكنولوجيا الحديثة في عصرنا بتوفير وسائل وطرق تُنجز المهمة من دون أن تترك أثراً.

ويُقال في هذا الصدد إنّ الإمبراطور شي هوانغ تي الذي حكم الصين قبل الميلاد بمئتي عام هو أول من سنّ فعلة الحرق وباركها، لتتحوّل، في ما بعد، إلى مثال تقتدي به كلّ سلطة حاكمة تخشى أن يتعلم مواطنوها الثورة من الكتب. واعتبر الفيلسوف الألماني هيغل ما فعله الإمبراطور الصيني عملية غسيل دماغ تفرض حصاراً فكرياً على عقول مواطنيه، وتعمل على هدم كل ما يذكّر بالحكام السابقين ومنجزاتهم وتدميره، وعلى محو آثارهم من الذاكرة.

وفي التاريخ ألف حكاية وحكاية عن محارق الكتب، وآلاف المؤلفات التي تعرّضت للحرق والإتلاف، لكنّ تلك العمليات الشرّيرة لم تتمكّن من حجب الفكر الحر، ولم تضمن محو أسماء المفكّرين والفلاسفة والشعراء من ذاكرة الشعوب، ومن صفحات التاريخ إلى الأبد، وواحدة من تلك الحكايات التي نستعيدها اليوم جرت في عهد الزعيم النازي أدولف هتلر، ففي لحظة عصابية مجنونة، في العاشر من مايو/ أيار، من عام 1933، عندما وقف جوزيف غوبلز؛ أقرب مساعديه وأكثرهم إخلاصاً له، في الساحة العامة في برلين، وسط حشدٍ يضمّ المئات من الطلبة والشباب، مدشّناً "مهرجان" حرق الكتب، رمى الكتاب الأول في المحرقة، وصرخ "لا للانحطاط، لا للفساد الأخلاقي"، تتابعت صرخات الحشد "لا للانحطاط، لا للفساد الأخلاقي" وشرع الجميع في إلقاء الكتب التي اصطحبوها معهم، وهم ينتشون بما يفعلونه، يرقصون ويغنّون: "ألمانيا فوق الجميع، فوق كلّ شيء في العالم، وحدة، عدالة، حرية". وفي حالة هيجان واندفاع خارق للعادة، تقدّمت صفوف أخرى لتلقي بما لديها من كتبٍ في المحرقة، فيما كان غوبلز راعي المهرجان متابعاً ما يجرى أمامه. ولعلّه كان يفكّر في سيده "الفوهرر" الذي سوف يكون ممتنّاً له على مأثرته في حرق الكتب التي تحضّ على الفساد، وفي تخليص شباب ألمانيا من شرورها!

أزيد من 25 ألف كتاب أحرقت في تلك التظاهرة الجماعية، منها كتب إرنست همنغواي وكارل ماركس وبرتولت بريخت وهاينريش مان وتوماس مان وآخرين ممن وُضعت أسماؤهم في قائمة سوداء، وقد حرصت حركة الشباب النازي على إحياء هذه المحرقة سنوياً في جامعات ومدارس ألمانيا إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية التي تعرّض فيها هتلر ونظامُه إلى الهزيمة، وأعيد الاعتبار إلى أولئك الكتّاب، وعادت كتبهم لتحتلّ مكانها في رفوف المكتبات، كما طُويت القائمة السوداء التي حملت أسماءهم.

لم تتردّد السلطات الحاكمة في أي بلد عربي عن حرق أو إتلاف الكتب التي ترى أنها تشكّل تهديداً لها

وفي تاريخنا كثير عن وقائع كهذه، فقد حُرقت كتب ابن حزم في عهد دولة أمراء الطوائف، وكتب الإمام أبي حامد الغزالي في عهد دولة المرابطين، وكتب القاضي ابن رشد في عهد دولة الموحّدين، ولن ننسى هنا قصيدة ابن حزم التي رثى فيها كتبه التي قال إنها باقية في صدره، وسيأخذها معه إلى القبر: "فإن تحرقوا القرطاس لن تحرقوا الذي/ تضمّنه القرطاس، بل هو في صدري، يسير معي حيث استقلت كتائبي/ وينزل إن أنزل ويُدفن في قبري". واستطراداً، نذكّر بما فعله المغول في غزوتهم بغداد، إذ ألقوا في نهر دجلة ملايين الكتب، وبما فعله السلاطين العثمانيون الذين عملوا على حرق الكتب التي تتحدّث عن العرب ومفاخرهم وأمجادهم، منها كتب عبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني ومحمود شكري الألوسي.

وفي عصرنا الحاضر، لم تتردّد السلطات الحاكمة في أي بلد عربي عن حرق أو إتلاف الكتب التي ترى أنها تشكّل تهديداً لها، أو لما تسمّيه السلم الاجتماعي، أو الوحدة الوطنية، أو الأديان، أو التقاليد والأعراف، وقد جرى ويجرى ذلك كله بعيداً عن الأنظار، وبإشراف أجهزة ومؤسّسات رقابية رسمية لا تصرّح بما تفعله. وفي غزوة تنظيم داعش على الموصل، حرقت آلاف الكتب الثقافية والسياسية، وحتى الدينية، بحجّة أنها تخالف التعاليم الإسلامية أو تدعو إلى الإلحاد.

ورغم كلّ ما سجّله التاريخ الإنساني من أخبار محارق الكتب ومحارق الأفكار، بقي الفكر الحر، وبقي الكتاب، حتى وإن تخلى عن صيغته الورقية، واتخذ الشكل الإلكتروني الذي فرضته التكنولوجيا، وسوف يبقى لأنّه يمثل، كما يقول خورخي لويس بورخيس، "امتداداً للذاكرة وللمخيّلة" إذ لا يمكن للإنسان أن يعيش حياته من دونهما.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"