عن لُجَين وأخواتها
في روايتها الشهيرة "بنات الرياض" (دار الساقي، بيروت، 2006)، ترفع الكاتبة السعودية رجاء عبد الله الصانع ستاراً ثقيلاً ظل سنوات طويلة يحجب جوانب من حياة المرأة في مجتمع بلدها، حيث تُسَوّر الأنثى بجدران عالية من الرجولة المنفوخة المحمية بحصون من حرّاس "العيب والحرام". كانت "بنات الرياض" بداية القرع على جدران خزّان حديدي يحشر فيه نصفُ المجتمع نصفَه الآخر. صحيحٌ أن الراوية لم تخض في الشأن العام من بوابات الهموم السياسية أو الثقافية، لكنها وعبر المناخ العاطفي المأزوم، وتعرية العلاقات المخنوقة بين المرأة والرجل، استطاعت الكشف عن مساحات واسعة من سجن غير مرئي ومسكوت عنه، في بلدٍ لا يتردّد بعضهم عن وصفه بـ"مملكة الصمت".
تروي "بنات الرياض"، وقد اقتبست عنوانها من أغنية عبد المجيد عبد الله "يا بنات الرياض"، حكايات أربع صديقات من الطبقة الغنية في العاصمة السعودية، قمرة ولميس وسديم وميشيل (مشاعل)، عبر مكاشفة إلكترونية لأسرارهن ومغامراتهن العاطفية. فضحت الكاتبة في خمسين رسالة إلكترونية المخفي من علاقات غريبة تجري خلف الأسوار العالية، أو خلال إجازات الصيف الغرامية، بين شبان ضعفاء ومستقوين وأحلام فتياتٍ عاشقاتٍ تتشظى على صخرة قاسية من المحرّمات. على الغلاف الخلفي للرواية التي كتبتها طبيبة أسنان لم تتجاوز آنذاك الثالثة والعشرين من العمر، كتب الراحل غازي القصيبي: هذه روائية تزيح الستار العميق الذي يختفي خلفه عالم الفتيات المثير في الرياض.
منذ "سيرة وانفضحت"، عنوان رسائل الفتيات الحالمات في رواية رجاء الصانع، قطعت بنات الرياض مشواراً جريئاً على طريق تسلق الجدار العالي، وكسر التابوهات. وقد دفعت بعضهن الثمن من حرّيتهن في السجن أو المنفى. لجين الهذلول، المعتقلة منذ مايو/ أيار 2018، وأختاها علياء ولينا، المنفيتان بين كندا وفرنسا، لم يخترن الصمت أو الخنوع أو النجاة، كما اختارت بعض شخصيات الرواية، بل آثرن رفع الصوت ضد سلطةٍ لا ترى في المرأة إلا عورة، أو جارية في أحسن الأحوال، تتزيّن في مخدعها بانتظار عطايا سيدها. قبل أيام، أعلنت عائلة لجين أنها بدأت، الإثنين الماضي، إضراباً جديداً عن الطعام، احتجاجاً على ظروف اعتقالها منذ وضعتها السلطات الإماراتية على متن طائرة وسلمتها إلى السعودية. رفضت لجين، العام الماضي، عرضاً بالإفراج عنها في مقابل بيان مصور بالفيديو تنفي فيه تقارير عن تعرّضها للتعذيب والتهديد بالتحرّش في أثناء احتجازها. وتتهم عائلة الهذلول سعودي القحطاني (ما غيره)، المستشار السابق في الديوان الملكي، والمقرّب جداً من ولي العهد محمد بن سلمان، والمتورّط في تدبير عملية قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي وإدارتها، تتهمه بالإشراف على جلسات تعذيب لُجين وتهديدها بالاغتصاب والقتل.
إن كانت بنات الرياض الجدد، لجين وعليا ولينا الهذلول، ومعهن سمر بدوي، ونسيمة السادة، ونوف عبد العزيز، ومياء الزهراني، وعزيزة اليوسف، وإيمان النفجان، وهتون الفاسي، وريم سليمان.. وأخريات، يشاركن قمرة ولميس وسديم ومشاعل، بطلات رواية رجاء الصانع، أحلامهن بحياةٍ أفضل، لا سطوة فيها ولا سياط، غير أن الجيل الجديد من بنات الرياض لا يشبه أمهاتهن ولا جدّاتهن، فهن لا يحلمن، بل اخترن الطريق الصعب، حيث لا تبيع المرأة حريتها بحفنةٍ من الذهب، ولا تستجدي قلب رجلٍ مأزوم.
قبل سنوات، واجهت رجاء الصانع، بسبب "بنات الرياض"، طوفاناً من الجدل. هناك من اعتبرها مرتدّة وطالبها بالتوبة، وهناك من اتهمها بنشر الرذيلة، فقط لأنها حاولت تكسير تابوهات وتعرية تناقضات مجتمع منفصم بين الرغبات والمحرّمات. بالطبع، هناك من أشاد بجرأتها، وهي تلقي حجراً ثقيلاً في المياه الراكدة، وتطلق صرخة متمرّدة بدّدت ليل صمت طويل؛ واليوم تُرمى لجين الهذلول وجيل جديد من بنات الرياض بتهم الإرهاب والتخريب، لأنهن طالبن بأبسط حقوقهن كبشر. بالأمس، حاولت رجاء الصانع كشف جانبٍ من المستور. واليوم تناضل لجين وأخواتها لتعرية واقعٍ يحاول ستر عوراته برخصة سياقة للمرأة.