عن كتابٍ تاريخيٍّ ممتع

21 نوفمبر 2022
+ الخط -

يتحدّث الرحالة والأنثروبولوجي الإنكليزي، برترام توماس، في كتابه الممتع "مخاطر الاستكشاف في الجزيرة العربية" عن عادة جلب الثمار من بيئات مختلفة لزراعتها في عُمان. يتوسّع الكاتب في هذا الشأن، ونحن نتحدّث هنا عن أول مستشرق يعبر صحراء الربع الخالي. مغامر مهد الطريق لمستكشف آخر لا يقل اندفاعا، وهو مواطنه ألفرد ثيسجر، صاحب كتاب "الصحراء العربية". برترام توماس وليد مدينة عرفت بكثرة مغامريها، وهي  بريستول الإنكليزية، حيث يمكن أن نجد في تاريخها من ينطلق في رحلاتٍ كثيرة، وربما لا يعود، فعلى سفينة انطلقت من بريستول، خرج جون كابوت البندقي عام 1497 ليصبح أول أوروبي يحطّ رحاله في يابسة شمال أميركا. وفي عام 1499، أصبح ويليام وستون، وهو تاجر بريستولي، أول رجل إنكليزي يقود الاستكشاف في شمال أميركا. ولكن مدينته كذلك، وهذا السبب الذي يجعل من صفة المستشرق، بمعناها الاستعماري الذي حدّده إدوارد سعيد في  كتابه الشهير"الاستشراق"، صفة  مناسبة له. والحديث هنا عن  مدينة إنكليزية واحدة فقط، فمع صعود تجارة العبيد في أوروبا، نقلت مدينة بريستول وحدها بين عامي 1700 و1807،  أكثر من ألفي سفينة، أي ما يقدّر بخمسمئة ألف عبد من أفريقيا إلى العبودية في الأميركتين.
ولكن الأهم في كتاب "مخاطر الاستكشاف في  الجزيرة العربية" الحديث عن الزراعة الذي ينمّ كذلك عن شغفٍ بها، حيث يصف برترام توماس، في القسم المتعلق بعمان، التصحّر ممزوجا بالاجتهاد الأهلي في محاربته وذلك بتنمية الأرض وتخضيرها، ليس فقط بشقّ الأفلاج الصعبة التي تصل إلى حدود الطبقات السفلى من الأرض في هندسةٍ عجيبةٍ من العسير شرحها في مقال، إنما كذلك في ما يتعلق باستجلاب أغراس زراعية من الشرق الأفريقي، حيث عاش العُمانيون، وما زال كثيرون منهم يعيش هناك.
وقد رأيتُ في طفولتي مثل ذلك في قرية الولادة (سرور) من بعض الأهل الذين نزحوا من زنجبار بعد المهلكة، والذين جلبوا معهم محاصيل متنوّعة لإنباتها في تربة عُمان، وكان من أبرزها فاكهة الباباي أو الفيفاي والمهونجو الأفريقية. يكتب توماس برترام في هذا السياق: "وسكان السيب الذين قاموا برحلات إلى زنجبار والهند والعراق قد جلبوا معهم محاصيل وزهورا جديدة لزراعتها هنا. والهواء هنا معطّر بالياسمين والحنة، والفاكهة هنا ناضجة، وهي معلقة في الأغصان، وكأنها لا تعرف يد الفلاح أبدا، ومن الأشجار التي تنمو في منطقة السيب أشجار المانغو وجوز الهند...".
يتجاوز الكاتب إيراد المعلومة، ليصف المحيط وطباع الناس: "وعندما اقتربنا من المدينة القديمة {المصنعة} انطلقت المدافع للترحيب. وكانت صفحة السماء رائعةً بالقمر الساطع، وكانت هناك كأنها مرايا من الفضة، تمثلها قنواتُ الماء ومياه البحر الممتدّ التي كان القمر يسطع على صفحتها، وكان مشهدا رائعا أن نرى النجوم وهي تنتقل من مجرى إلى آخر، ومن بركة إلى بركة..".
ويشتمل الكتاب على مجموعة من المواقف والحكم، من أمثلتها: "ثم قرأت كتابا مليئا بالحكم العُمانية، وكانت إحدى تلك الحكم بعنوان {تعلمتها من وجه الذئب} ولكنني لم أفهم معناها، وعندئذٍ حكى لي السلطان قصة هذا المثل، إنه ذات مرّة اجتمع ذئب وثعلب وأسد حول ثور ميت، وطلب الأسد من الذئب أن يقسم الثور بينهم، فقال الذئب حسنا: (الجزء الأمامي من الثور لنفسه، والأقدام والرأس للأسد، والباقي للثعلب، فلم تعجب القسمة الأسد فضرب الذئب على وجهه، وجمع كل الأنصبة واستدار إلى الثعلب، وطلب منه القسمة فوافق الثعلب، وأعطى الأجزاء الخلفية والأمامية للأسد وأخذ الرأس والأقدام لنفسه، وأعطى ما تبقى للذئب، فابتهج الأسد لعدالة التوزيع، وقال للثعلب: من أين تعلمت هذه الحكمة؟ فقال: تعلّمتها من وجه الذئب).

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي