عن قرية عُمانية معلّقة
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
قرية كبدا إحدى القرى العُمانية المعلقة بين الجبال، كساعةٍ قديمةٍ تخفق وحيدة خارج الزمن. كان، إلى وقت غير بعيد، لا يمكن الوصول إليها بغير معونة الحبال الغليظة والمروحيات .. تستوطنها قلة من أناس يعيشون في حالة استرخاءٍ أبدي، ترى وكأن الزمن قرّر مكافأتهم بأن ترَكهم خارج حركته العنيفة. حيث لا تعدم مثلاً أن تجد الشايب خميس السلطي، وهو عجوز صافي القلب والنية، يقضي جل وقته نائماً، بأن يستيقظ فجأة وأنت في عام 2007 (لمّا زرتها فيه أول مرة)، ويسألك عن صحة شاهنشاه إيران، ثم، ومن دون أن ينتظر إجابة من فمك المشدوه، يُكمل نومته مستريحاً.
يعيش سكّان هذه القرية على الكفاف والتأمل، فهم يكتفون من الصلوات بأن يروا شساعة المحيط حولهم، وضآلة كلّ ما تحتهم. لذلك يستصعبون كل جديد، ولا يتقبلونه من دون ألم. يصطادون، منذ الصباح الباكر، الجراد وطيور العقعق ونبات الحمّيضة الذي يثمر بكثرة في المرتفعات. كما أنّهم ينتظرون، بشغفٍ حالم بين الفينة وأختها، أحد القادمين ليقايضوه بما يزرعون مقابل القهوة.
هذه القرية، حين زرتها بصحبة والدي أول مرة، في طلائع عام 2007، كانت أكثر الأمور بساطة في حياتهم تستوقفني طويلاً، بدايةً من استقبالهم الحارّ كلّ غريب، وتنازعهم على ضيافته. رأيت أنهم مستعدّون ليقوموا بأيّ عمل وفي أيّ وقت، حيث لا وجود للمفاجآت في حياتهم، والانتظار لا يعني لهم أكثر من سحابةٍ تتقدّم بطيئاً في الأفق. والجميع يتساوون في القيمة، الغرباء والأصدقاء. ولديهم مجلس طيني كبير مسقوف بجذوع محروقة، تعارفوا أن يوفدوا فيه أي زائر جديد، ومن دون أن يسألوه عن مدّة إقامته بينهم، فما إن يدخل الظلام إلا ويجد الضيف بجانبه فراشاً وسراجاً وصحناً من مدقوق الجراد المخلوط بالغنيبة (نبات)، وفي الصباح ينطلقون للعمل بين الجبال.
في ظهيرة اليوم الموالي، كانت وجبة الغداء ثعلباً مشوياً، اصطاده أحدهم، كان الحماس يفور من قسمات أجسادهم وهم يستمعون إلى محدّثهم، وطريقته المراوغة الثعلبية في اصطياده: في تحويل الثعلب إلى ضحية. الشباب والكبار والصبية يتصرّفون ويتحدّثون بالمقاسات نفسها من الشعور والحركة، وبعد الغداء تفرقوا بحماسهم نفسه ليصلوا ما انقطع من أعمالهم، وأودعوني الشايب خميس النائم، حيث لا يترك الضيف وحيداً، ولا بد من إنسانٍ ما بقربه، حتى وإن كان عليلاً أو نائماً.
وكان الشايب خميس قد أكمل ما انقطع من نومته، بعد دقائق قليلة من جفلته ورؤيته لي وسؤاله عن الأخبار والعلوم وعن صحة ملكٍ مات منذ عقود، حين لمحت صحيفة باهتة الألوان، كتب على غلافها "أخبار الرياضة" وبخط أصغر كتبت عبارة "جريدة يومية تُعنى بشؤون الرياضة".
لم يستوقفني بهوت الألوان وضياعها، الذي أوعزته إلى اختلاط أوراق الصحيفة بقطرات المطر، حيث السماء لا تني تُكرمهم، بين حين وآخر، بقطرات عابرة؛ كما أنني لم ألتفت إلى تاريخ الصحيفة للسبب نفسه. لكن أكثر ما أثار شعوري هو الصور الغريبة التي رأيتها فيها، وهي لأبرز لاعبي البرازيل في عقد الثمانينيات (زيكو، سقراط، فالكاو)، وكانوا في كامل فتوتهم، إذ إنّ الصحيفة اليومية تسرد عن حدثٍ مقبل، يفترض أن تُخبر عنه تفاصيل اليوم الموالي، لمباراة مرتقبة بين فرنسا والبرازيل، انتهت أحداثها في أحد أيام عام 1982، والتي ما زلت أتذكر تفاصيل عركتها في شاشة رأسي. هنا انتقلت سريعاً الى الصفحة الأولى من الصحيفة، باحثاً عن تاريخ إصدارها، لأكتشف أنّها بالفعل قبل يوم من تلك المباراة التي ترك الزمن نتيجتها معلقة بين الجبال.
وحين أزف وقت عودتي، مد إليّ من بطن الهليكوبتر بسلّم مجدولٍ من حبال غليظة، تسلقتها بتثاقل حلم رائق يرفض الصحو. وحين علت بي الطائرة، رأيتُ، ويا للسحر، من خلل النافذة الزجاجية، تلك الملامح التي كانت تنبض حيةً قبل قليل، وقد حلّت مكانها ملامح جديدة: قسمات الساعة التي توقف الزمن عن ملاحقتها.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية