عن عروبة العراق والخليج
ثارت ثائرة طهران على استخدام مسؤولين عراقيين مصطلح الخليج العربي، معترضةً على هذه التسمية التي تعتبرها غير صحيحة، وأن الخليج "فارسي"، ولها في ذلك أدلة تدعم هذا الرأي، كما أن للعراقيين، ومن خلفهم الخليجيون، أدلة أكبر وأهم وأكثر واقعية من التاريخين، القريب والبعيد، والتي تدعم رأيهم.
سجالٌ يبدو أنه لن ينتهي مع نهاية الحدث الخليجي الكروي الذي تحتضنه البصرة، خصوصا وأن مصطلح الخليج العربي لا يبدو أنه كان هفوة، سواء من المنظّمين العراقيين أو من ورائهم اتحاد كأس الخليج العربي.
في زيارته برلين، كرّر رئيس الحكومة العراقية، محمد شياع السوداني، مصطلح الخليج العربي ثلاث مرّات في مقابلة أجرتها معه قناة دي دبليو الألمانية، وزاد بالقول إن الخليج عربي ولا جدال أو نقاش في هذا الشأن.
ولست هنا بصدد عرض أدلة كلا الطرفين، العراقي الخليجي والإيراني، ولكن الاعتراض الإيراني يبدو أن وراءه هواجس كثيرة، خصوصا إذا ما علمنا أن الاسم الرسمي المعتمد لهذه البطولة هو كأس الخليج العربي، وسبق للدول الخليجية أن نظمتها في سنوات سابقة، ولم نشهد اعتراضا إيرانيا على هذه التسمية التي تريد لها طهران أن تكون جدلية.
كان يمكن أن تمضي بطولة الخليج العربي في البصرة من دون احتجاج إيران، لو أن طهران رأت ثمار غرسها طوال العشرين عاما وقد أينعت
نعم، الأمر أعقد بكثير مما قد يراه المتابع، إنه نقاش وخلاف على التسمية والمصطلح، فطهران التي أدركت منذ ثورة تشرين (2019) أن نفوذها في العراق آخذ بالتضاؤل، استشعرت ذلك بشكل أكبر خلال بطولة كأس الخليج العربي التي احتضنتها البصرة، فعلى الرغم من أن أذرع إيران تدير البصرة، كما غيرها من مدن العراق، وعلى الرغم مما بذلته من محاولة فصلٍ قسريٍّ للعراق عن محيطه العربي، إلا أن ما جرى في البصرة خلال هذه البطولة أعاد ترتيب الأشياء بطريقة أزعجت إيران كثيرا. وقد كان الشعور البصري العراقي بالانتماء إلى الحاضنة العربية الخليجية واضحا ولافتا، ومحاولة أهل البصرة، ومن ورائهم كل العراقيين، إظهار أقصى درجات الكرم والترحيب بالضيوف الخليجيين، يحكي الكثير.
عشرون عاما، كان الإعلام الذي تديره أذرع إيران في العراق يعمل على شيطنة كل ما هو عربي، كانت خلالها عمليات ملاحقة واعتقال كل عربي بدعوى الإرهاب تسيطر على المشهد، وليس ببعيد علينا ما جرى للأشقاء الفلسطينيين في العراق من عمليات ملاحقة واعتقال وحتى إعدام بتهمة الإرهاب، حتى وصل بهم الحال إلى الهجرة مجدّدا، ليعيشوا نكبة أخرى، وهم الذين فرّوا منها صوب العراق بعد نكبة 1948 ونكسة 1967.
شيطنة متواصلة، وصلت إلى تفاصيل مرعبة ومقزّزة، فما إن يلعب منتخب العراق لكرة القدم ضد شقيق عربي حتى يصوّر الإعلام العراقي الموالي لإيران المباراة كأنها حرب بين العراق وذاك البلد، بل يعيد الأسطوانة المشروخة التي دأب عليها، ويذكّر بالمفخّخات التي كانت تضرب العراق، متهما تلك الدولة بالوقوف وراءها. وقد بذلت إيران جهدا كبيرا من أجل تشكيك العراقي حتى بعروبته، حتى وصل الحال بأن تدعم بعض التيارات التي تتحدّث عن أمة عراقية لا علاقة لها بالعرب، أمة قومية تعود بجذورها إلى حضارات وادي الرافدين القديمة.
كان يمكن أن تمضي بطولة الخليج العربي في البصرة من دون احتجاج إيران، لو أن طهران رأت ثمار غرسها طوال العشرين عاما وقد أينعت، بقطيعة شعبية بصرية لأهل الخليج، غير أن ما شاهدته كان أكبر مما تتوقعه وتتخيله.
مشكلة إيران بالصدمة التي عقدت لسانها، وهي ترى العراقيين يلتفون حول إخوانهم العرب والخليجيين
صحيحٌ أن ثورة تشرين كانت شرارة خطر على نفوذ إيران في العراق، غير أن ما جرى في البصرة أيقظ كل المخاوف الإيرانية من فقدان تدريجي لنفوذها الذي بنته طيلة عقدين عبر أذرع سياسية ودينية واقتصادية واجتماعية وحتى ثقافية.
لم تكن مشكلة إيران مع عروبة الخليج الدافع وراء إحداث هذه الزوبعة الدبلوماسية التي وصلت إلى حد استدعاء سفير بغداد لدى طهران وتسليمه مذكّرة احتجاج، وإنما مشكلة إيران بالصدمة التي عقدت لسانها، وهي ترى العراقيين يلتفون حول إخوانهم العرب والخليجيين، في مشهد اعتقدت طهران واهمة أنه لن يكون قريبا.
نعم، أخطأ العرب يوم أن تركوا بغداد لقمة سائغة لفمٍ إيراني نهم، يُحرّك فكّيه نحو طموحات قومية فارسية متغطرسة، أخطأ العرب يوم أن أقنعتهم واشنطن بأنها لن تترك العراق لقمة لذاك الفم الشره، وصار لزاما عليهم أن يعيدوا ترتيب أولوياتهم، فالعراق لا يحتاج منهم إلى دعم ولا إلى مال، وإنما إلى أن يعودوا إليه كي يعود لهم.
بطولة كأس الخليج العربي في البصرة يمكن أن يُبنى عليها، يمكن أن تكون مدخلا لوجود خليجي عربي أكبر في العراق، خصوصا وأن الحكومة العراقية الحالية لا ترى في هذا الوجود أي غضاضة، حتى وإن كان يغضب إيران، فهي لمست ما يمكن أن يسهم به هذا الوجود الخليجي العربي في العراق من تغيير للصورة النمطية للعراق أولا، وأيضا من شعور شعبي عراقي بأنه امتداد لعروبته الراسخة.