عن ضمور الأحزاب في تونس

23 فبراير 2024

متظاهرون تونسيون في العاصمة يطالبون بالإفراج عن المعتقلين السياسيين (14/1/2024/Getty)

+ الخط -

تعدّ الأحزاب هيئات تنظيمية فاعلة في الاجتماع السياسي الحديث، فعليها المعوّل في استقطاب المواطنين، وتوعيتهم بحقوقهم وواجباتهم، وتأهيلهم لمعارضة النظام القائم أو تأييده. ومع أنّ الأحزاب في الأنظمة الشمولية جهاز ديماغوجي، وأداة تحشيد للناس حول النظام الحاكم، وقوّة اقتراح واستشراف خادمة لسياساته، فإنّ الأحزاب في الأنظمة الديمقراطية أوعية تشكيل لثقافة الاختلاف، وأفضية للتعددية البرامجية، وهي كيانات مدنية حيوية فاعلة في الشارع، وقوّة ضغط على المنظومة الحاكمة، لا تكتفي بالاقتراح والبرمجة والاستشراف. بل تتجاوز ذلك إلى فرْض رقابة على أداء الفريق الحاكم، وتضطلع بدور أساسي في نقد سياساته، وتقديم بدائل عنها. كما يُمكن أن تُرشّح ممثّلين لها لخوض غمار الاستحقاقات الانتخابية التشريعية، والرئاسية، والبلدية تكريسا لمبادئ المواطنة، والتعدّدية، والتنافسية، وتحقيقا لمطلب التداول السلمي على السلطة.
ومعلوم أنّ الحالة الحزبية في تونس شهدت أوج ازدهارها خلال عشرية الانتقال الديمقراطي (2011 - 2021). فقد تحرّرت الأحزاب من سطوة النظام الحاكم، وعبّرت عن هويتها البرامجية، وأجندتها السياسية في كنف الاستقلالية وتمام الحرية، وشاركت عدّة أحزاب في التنافس على الفوز بمقاعد البرلمان، أو مجالس البلديات أو كرسي رئاسة الجمهورية، وساهمت في صياغة محامل دستور 2014، وفي تشكيل مؤسّسات الاجتماع الديمقراطي، وإدارة تجربة الحكم بطريقة تشاركية. ونجحت أحزاب وتكتّلات سياسية ونقابية وجمعوية معارضة في تصعيد حكومات وإطاحة أخرى، وفي التمكين لوجوه سياسية وإسقاط أخرى، وفي تحريك الشارع الاحتجاجي للاعتراض على الموازنة العامّة أو على ارتفاع الأسعار أو على انتهاكات محدودة للحريات أو على خلفية مطالب تنموية أو قطاعية أو معيشية أو غير ذلك.

الأحزاب المؤيّدة خيارات رئيس الجمهورية قيس سعيّد ذات حضور باهت في الشارع، ولم تنجح في تحشيد الناس لدعم المبادرات الرئاسية

وكان للحراك الحزبي حضور واضح في المشهد الإعلامي وفي الفضاء العام، وتأثير بيّن في توجيه السياسات العامّة للدولة. لكنّ المشهود بعد سنتين ويزيد من أحداث 25 يوليو (2021) أنّ الحالة الحزبية في تونس بشقّيها، المؤيّد للنظام الحاكم أو المعارض له، قد آلت إلى الضمور، حتّى أنّ الفعل الحزبي يوشك أن يتلاشى. ولذلك تجلّيات عدّة وأسباب ذاتية وموضوعية جمّة.
يلحظ المتابع للمشهد السياسي في البلاد أنّ أحزاباً علمانيةً كثيرة (مثل: مشروع تونس، نداء تونس، الوطنيون الديمقراطيون، المبادرة الوطنية الدستورية، الطليعة العربي...) التي علا ضجيجها خلال عشرية الانتقال الديمقراطي، وكانت تتصدّر المنابر الإعلامية، وتقيم الدنيا ولا تُقعدها اعتراضاً على فصل في الدستور أو في الموازنة العامّة أو احتجاجا على قرار حكومي، هذه الأحزاب تبخّرت تماما، أو هفت صوتها، وترك "رموزُها" الساحات العامّة والبرامج التلفزية، وباتوا يُحاذون الجدران القائمة، ويستلذّون الصمت والوقوف على الربوة بعد حركة 25/07/2021. ويبدو أنّ تلك الأحزاب انتصبت، وفتحت دكاكينها خلال العقد المنقضي لاستنزاف حكم الإسلاميين وحلفائهم، وبمجرّد إزاحة حركة النهضة عن السلطة انتهت مهمّتهم، واعتزلوا السياسة، واختاروا متابعة أوضاع البلاد عن بعد. كما أنّ الأحزاب المؤيّدة خيارات رئيس الجمهورية قيس سعيّد (حركة الشعب، التيار الشعبي، التحالف من أجل تونس، تونس إلى الأمام، حراك 25 يوليو) ذات حضور باهت في الشارع، ولم تنجح في تحشيد الناس لدعم المبادرات الرئاسية، من قبيل الاستشارة الإلكترونية، الاستشارة الوطنية لإصلاح نظام التربية والتعليم، والانتخابات التشريعية والمحلية التي ظلّت نسب المشاركة فيها دون المأمول، وتمثيليّة أحزاب الموالاة فيها ضعيفة. يُضاف إلى ذلك أنّها غير حاضرة في التركيبة الحكومية، وغير مؤثرة في مؤسّسة رئاسة الجمهورية. وهو ما يجعلها هامشية، وغير مساهمة بشكل فاعل في صناعة القرار.

تكرار الوجوه القيادية نفسها وتهميش الشباب والمرأة في مستوى هيكلة الأحزاب، وإدارتها، وقيادتها يؤدّيان إلى استنزاف رصيدها الشعبي ونفور الناس منها

أمّا طيْف الأحزاب المعارضة لمسار 25 يوليو، فيتوزّع أساساً بيْن جبهة الخلاص الوطني (حركة النهضة، حزب قلب تونس، ائتلاف الكرامة، حراك تونس الإرادة، وحزب الأمل)، وتنسيقية القوى الديمقراطية (حزب العمال، وحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، وحزب التيار الديمقراطي، وحزب القطب)، ومنتدى القوى الديمقراطي (ائتلاف صمود، الحزب الاشتراكي، حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي، آفاق تونس، الحزب الاجتماعي التحرّري ومجموعة درع الوطن)، يُضاف إلى ذلك كله الحزب الدستوري الحر. ومع أنّ هذه الأحزاب قد كسرت جدار الصمت، وعبّرت، في مواقيت متباينة، عن اعتراضها على مسار 25 يوليو ومخرجاته، فإنّ فعلها الاحتجاجي مُشتّت، واكتسى غالبا طابعا بيانيا، خطابيا، ولم يتّخذ طابعا ميدانيا واسعا، بل اقتصر على تنظيم بعض التظاهرات المحدودة والوقفات الرمزية، وآل أخيرا إلى الانحسار في النشاط عبر بعض وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي. ويمكن تفسير الركود/ الفتور الحزبي بعدّة أسباب، منها ما هو ذاتي متعلّق ببنية الأحزاب واستراتيجياتها، ومنها ما هو موضوعي، متّصل بمعطيات خارجية، حدّت من نشاطها.
في مستوى قراءة الأداء الذاتي لجلّ الأحزاب التونسية، يتبيّن الدارس أنّها تعتمد نظاماً هيْكلياً كلاسيكياً، ينبني على هيمنة وجوه قديمة، في مقدّمتها رئيس الحزب الذي يستأثر غالبا بالكاريزما، والنفوذ، والظهور الإعلامي، وبسلطة اتخاذ القرار، فتكلّست بذلك البنية القيادية لمعظم الأحزاب، ولم تنجح في إنتاج قيادات جديدة فاعلة، وفي تأمين تداول على المسؤوليات داخلها، وظلّت أسيرة زعيم نافذ، بغيابه ينفرط عِقد الحزب أو ينحسر نشاطه. ومعلوم أنّ تكرار الوجوه القيادية نفسها وتهميش الشباب والمرأة في مستوى هيكلة الأحزاب، وإدارتها، وقيادتها يؤدّيان إلى استنزاف رصيدها الشعبي ونفور الناس منها. كما أنّ ضبابية الهوية البرامجية لمعظم الأحزاب، وعدم تقديمها تصوّرات تفصيلية واقعية لمعالجة قضايا ملحّة (البطالة، الفقر، الهجرة، المديونية، التفاوت الجهوي، البيروقراطية...)، وتعاملها مع المواطنين من منظور براغماتي، غنائمي، ينبني على التفاعل معهم ومحاولة استقطابهم بتقديم وعود شتّى فترة الحملات الانتخابية، وترْكهم لمصيرهم بعد نهاية الموسم الانتخابي جعلت أغلبية المواطنين لا يثقون في الخطاب الحزبي الواعد بل لا يلتفتون إليه. يضاف إلى ذلك شيوع خطاب الكراهية والتنافي بين الأحزاب التونسية قبل أحداث 25 يوليو (2021) وبعدها، وادّعاء كلّ منها امتلاك الحقيقة المطلقة، ورفض معظمها مراجعة سياساتها وأدبياتها من منظور نقدي، وهو ما ساهم في تشكيل صورة قاتمة حول المنظومة الحزبية لدى طيْف معتبر من التونسيين.

جدّت منظومة 25 يوليو في تهميش الحالة الحزبية سياسيا، وانتخابيا، وميدانيا

موضوعيا، يمكن تفسير أفول الحالة الحزبية في تونس بسياق إقليمي ودولي، تراجع فيه ألق المدوّنات الأيديولوجية الكبرى (الشيوعية، القومية، الديمقراطية، الإسلام السياسي...)، وصعود خطاب ما بعد الأيديولوجيا. لكنّ ثمّة معطيات محلية أخرى أدّت إلى فتور التحزّب في السياق التونسي بعد 25/07/2021 من بينها انتشار خطاب السّحل الإعلامي للأحزاب، وتحميلها مسؤولية كلّ عثرات عشرية الانتقال الديمقراطي، وتغييب الأطراف الحزبية المعارضة من المنابر الإعلامية الرسمية، ونشاط أنصار الرئيس قيس سعيّد في ترويج فكرة عدم الحاجة لأجسام وسيطة، وأنّ العلاقة مباشرة بين الرئيس وشعبه. وقد انصرفوا إلى تشويه الأحزاب من خلال نعتها بالخيانة، والعمالة، والفساد. كما جدّت منظومة 25 يوليو في تهميش الحالة الحزبية سياسيا، وانتخابيا، وميدانيا. فمن الناحية السياسية، جرى حلّ المؤسّسات التمثيلية التي أنتجها التنافس الحزبي خلال عشرية الانتقال الديمقراطي وتغييرها جزئيا أو كلّيا بموجب مراسيم رئاسية وجرى إقصاء الأحزاب من عمليّة التأسيس الجديد، وتأكّد ذلك من خلال تعديل القانون الانتخابي الذي استبدل نظام الاقتراع على القائمات الحزبية بالاقتراع على الأفراد مع منع الأحزاب من تمويل مرشّحيها. أمّا ميدانيا، فساهم تمديد العمل بقانون الطوارئ، واعتقال بعض قيادات الصف الأوّل في أحزاب معارضة، وتوجيه تهم التآمر على أمن الدولة إليهم في انحسار الفعل الحزبي، وتأكّد ذلك مع صدور المرسوم عدد 54 الذي فرض عملياً قيوداً صارمةً على حرّية التعبير على المتحزّبين وغير المتحزّبين. وفي ظلّ تلك المعطيات، عبّر مراقبون عن خشيتهم من تحويل فعل المعارضة من كونه فعلاً سياسياً إلى كونه ملفّاً أمنياً قضائياً.

خطورة تهميش الأحزاب أنّه يؤدّي إلى ظهور نظام شمولي/ أحادي، يلتهم الفضاء العام، ويحتكر النفوذ والحقيقة

وإزاء تمدّد منظومة 25/07/2021، راوحت أحزاب المعارضة بين التمسّك بمقولات حقوق الإنسان، والنضال السلمي، واستعادة النظام الديمقراطي، وبين استراتيجية مقاطعة الانتخابات التي لئن أثّرت في نسبة المشاركة، فإنّها لم تؤثّر كثيراً في شعبية قيس سعيّد ولم تمنع الامتداد المؤسّسي إلى "النظام القاعدي". كما توسّلت المعارضة الضغط الدبلوماسي الخارجي الذي جعلها محلّ شبهة الاستقواء بالأجنبي. أمّا أحزاب الموالاة، فراهنت على دعم مسار 25/07/2021 عسى أن تتصدّر المشهد السياسي، وتكون مؤثرة في البناء المؤسّسي الجديد، لكنّها لم تُفلح في ذلك لمحدودية امتدادها الشعبي، ولزهد الرئيس قيس سعيّد في التحالف مع الأحزاب، حتى وإن أعلنت له الولاء والطاعة.      
ختاما، تكمن خطورة تهميش الأحزاب في أنّه يؤدّي من ناحية إلى ظهور نظام شمولي/ أحادي، يلتهم الفضاء العام، ويحتكر النفوذ والحقيقة، وتُفضي، من ناحية أخرى، إلى إنتاج جيل احتجاجي خارج الوسائط الحزبية والأطر القانونية على نحوٍ يجعل من الصعب توجيهه، وتأطيره، والسيطرة عليه في لحظات الاحتقان الاجتماعي. لذلك من المهمّ بمكان أن تراجع الأحزاب التونسية بناها واستراتيجياتها من منظور نقدي/ موضوعي حتى تخرج من الضمور إلى الظهور، وتستعيد دورها في تأطير الناس والفعل في الشأن العام.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.