عن صراعات "الدولة العميقة" في العراق
منذ عودة رئيس حكومة العراق محمد شيّاع السوداني من زيارته لواشنطن، تشهد بغداد صراعات محمومة بين أطراف "الدولة العميقة" معطوفةً على نتائج الزيارة، التي رأتْ فيها الأطراف الموالية لإيران "خروجاً عن النصّ المتّفق عليه"، بحسب وصف شخصية سياسية من داخل المنظومة الحاكمة، معتبرةً الاتفاقيات التي عقدها السوداني مع جهات وشركات أميركية خسارة لإيران، التي تحظى بالنصيب الأوفر من مردودات الاقتصاد العراقي. وتضيف الشخصية المذكورة أنّ تلك الصراعات كانت قد بدأت تطفو على السطح بعد ظهور خلافات داخل "الإطار التنسيقي" على خلفية آخر انتخابات لمجالس المحافظات، وكذلك انتخاب رئيسٍ جديد للبرلمان، إلا أنّها اتخذت منحىً أكثر حدّة بعد عودة السوداني، فأخذ كلّ طرفٍ يسعى إلى الحصول على موطئ قدم، في هذا الموقع أو ذاك، يمكن استثماره في الانتخابات البرلمانية المُرتقَبة، وتوقّعت أن يؤدّي احتدام هذه الصراعات إلى عمليات "كسر عظم" غير متوقّعةٍ لدى أكثر من طرفٍ وشخصيةٍ نافذة، ولفتت الانتباه إلى واقعتيْن منفصلتيْن تزامن حدوثهما في وقت واحد الأسبوع الماضي، تعكسان الجزء الطافي على السطح من جبل الجليد الغاطس.
الأولى؛ الهجوم بطائرة مُسيّرة على حقل غاز كورمور في محافظة السليمانية، الذي يُزوّد إقليم كردستان بالطاقة الكهربائية، وأدّى إلى مقتلِ عدة عاملين، وتوقّف التيار الكهربائي في مناطق واسعة من الإقليم. وقد وُجّهتْ أصابع الاتهام نحو المليشيات الولائية المرتبطة بإيران، التي ربما تكون قد أرادت من هذا الفعل توجيه رسالة مفادها أنّ الاتفاق العراقي الأميركي بإنهاء عملية استيراد العراق للغاز الإيراني لن يمرّ، وأنّ قطاع الكهرباء سوف يبقى رهينة بيد إيران، ولوحظ ردُّ فعلٍ غاضبٍ من سفيرة الولايات المتحدة ألينا رومانوسكي ومطالبتها الحكومة الاتحادية بتحقيقٍ عاجلٍ وإحالة الجناة على القضاء، وتأكيدها دعم بلادها لاستقرار وأمن كردستان. والواقعة الثانية، هي اغتيال إحدى مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي "مُقرّبة من ضبّاط كبار، وشخصيات عسكرية وأمنية بارزة... وارتباطها إمّا بمنظومة فساد أو بمنظومة اخترقت الدولة... واغتيالها يحمل رسائلَ سياسيّةً خاصّة في هذا التوقيت"، وفق ما قاله أحد قياديّي ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه نوري المالكي.
بدأت تطفو على السطح خلافات داخل "الإطار التنسيقي" على خلفية آخر انتخابات لمجالس المحافظات، وكذلك انتخاب رئيسٍ جديد للبرلمان، وازدادت بعد عودة السوداني من واشنطن
وإذا كانت الحقيقة تكمن في التفاصيل، كما يقول أصدقاؤنا الصينيون، وليس في العناوين فقط، فإنّ "أمّ فهد"؛ وهو الاسم الذي اختارته المجني عليها لتظهر به، كانت قد هَدَّدَتْ قبل رحيلها بكشف ما وصفته بـ"ملفات إذا خرجت إلى الإعلام ستنهار العملية السياسية، وستنهار معها المؤسّسة العسكرية، وبشكل كامل"، وهي تُمثّل، في رأي كثير من مراقبين "الصندوق الأسود" الذي يحتوي كلّ ما يخشاه القابضون على السلطة، لكنّهم توقعوا أن لا يحول اغتيالها دون الكشف عن مقدار مهول من الفضائح، التي سوف تضع علامات استفهام كبيرة أمام لاعبين أساسيين في منظومة الحكم. المشكلة هنا تظلّ أكبرَ ممّا نتصوّر، إذ إنّ أمّ فهد لم تكن وحدها في الميدان، إنّها ومجموعة نساء أخريات، يطلق عليهن العراقيون صفة "فاشنستات" أو "بلوغرات"، حصلن بحكم علاقاتهن على امتيازات مُعيّنة، من بينها منحهن جوازات سفر دبلوماسية، وسيارات فارهة، وسكن في مُجمّعات "النخبة"، وأصبحن يُشكّلن جزءاً من الدولة العميقة، التي تضمّ قادة مليشيات، وزعماء مافيات الجريمة المنظّمة إلى جانب شخصيات سياسية فاعلة، وحتّى شخصيات دينية، استحوذت على السلطة والمال والقرار، وهي تدير المفاصل المهمّة في البلد من وراء ستار، وتُحْكِمُ إمساك خيوط اللعبة، ولها ارتباطاتها الخارجية أيضاً، وقد تحوّل العراق بفضلها إلى نموذجٍ للدولة الفاشلة، التي لا تملك من أمرها شيئاً.
ومعروف عن الدولة العميقة أنّها تَعْمَدُ، في كثير من حالات، إلى استخدام أسلوب التصفيات الجسدية لمن تظنّ أنّه بات يشكّل خطراً عليها، بعدما ينتهي الدور المُوكَل إليه أو بحكم ما أضحى يمتلكه من أسرار وخبايا يؤدي كشفها إلى إلحاق الضرر بالدولة العميقة نفسها، ويرى بعضهم في واقعة مقتل أمّ فهد، واستيلاء القاتل على هاتفها المحمول فقط، من دون أن يتعرّض للحلي والمجوهرات التي كانت معها، دلالةً على أنّ الجهةَ التي خططت للقتل تريد إسدال الستار على فضائحَ تطاول سياسيين وعسكريين نافذين تابعين لها أو متواطئين معها. وهكذا، أصبحتْ اللعبة تُدار على المكشوف، فيما العراقيون؛ أسرى الدولة العميقة، لا يملكون لها صدّاً ولا ردّاً، وفي الأحوال كلّها، فإنّ المشهد الماثل يستدعي عملية جراحية كبرى، يقوم بها جرّاحون مَهَرَة، تخترق الجسد العراقي المُثقلِ بالأمراض العُضال، ولا يبدو أنّ اللاعبين الحاليين مؤهّلون لإصلاح ما أفسدته الأعوام العشرون، وتلك هي المفارقة التي يبدو أنّنا محكومون بالعيش في ظلّها زمناً أطول.