عن حارة اللوتس في مسقط

11 يوليو 2022

(حسين عبيد)

+ الخط -

لا توجد حارة في مسقط تُعرف باسم حارة اللوتس، كما أنّه لا يمكن إنكار عدم وجودها!
لكن ما دلالة كلمة حارة؟ أليست مجموعة من الأرواح والأجساد البشرية تكرّر لقاءاتها في مربع أو دائرة أو شارع. ومع تواتر الزمن، تتشكل بينهم حياة مترابطة بخيوط خفيّة. يمكن أن يكون الأمر بهذه البساطة (وما أجمل البساطة). لم يكن لحارة اللوتس من وجود، لو لم يتفق صديقان على استئجار دكّان فارغ ويملآنه كتباً. هكذا تحوّل ذلك الفراغ إلى مكتبةٍ أطلقا عليها اسماً أنيقاً "لوتس". وخارج المكتبة يوجد مقهى "حلوى" المقصود بها الحلوى العُمانية، وهي حلوى تقليدية، صار يضاف إليها التمر بدل السكر، وأحيانا اللبان الظفاري والتين وابتكارات أخرى. وحين تدخل محلاً للحلوى العُمانية، يمكنك أن تتذوّق مجاناً عدة أنواع، ثم تقرّر هل ستشتري أم لا.
وُلدنا والحلوى العُمانية ملء أسماعنا. لكنّها، في أيامنا هذه، ليست في متناول العين والفم، إلّا في المناسبات، حتى أنّه ليقال، في الدارجة العُمانية، حين يرى الإنسان شيئاً عجباً "ما حلواه" أي أنّ الأمر لا يقتضي كلّ هذا الشغف، لأنّها ليست حلوى. وأتذكّر أنّه، على مشارف قريتنا سرور، كان دكان صاحبه أعرج، متزوج من سيدة هندية، ويصنع الحلوى، وكان محله شبه معزول، لكنّه لكي يستقطب الناس، وضع جهاز تلفزيون في باحة مفتوحة أمام محله، والجهاز معلق في صندوق خشبي مسنود بعارضتين طويلتين. لذلك كان الناس يتجمّعون أسفل التلفزيون جالسين على حصير على الأرض، وأعينهم إلى الأعلى. لم يكن صانع الحلوى (أو الحلاو) كما يطلق عليه في اللهجة العُمانية، يفتح ذلك التلفزيون إلّا ساعة فقط. وذلك لأنه يتم تشغيله بواسطة بطارية الشحن، إذ لم تكن الكهرباء قد وصلت بعد إلى قرية سرور. الجميل أنّنا كنا نذهب إلى هناك من أجل مشاهدة مسلسل الأستاذ ممنوع، الذي كان من بطولة الممثل اللبناني عبد المجيد مجذوب. وهو مسلسلٌ عن اللغة العربية، إذ يتدخّل الأستاذ ممنوع في كلّ مرّة مصحّحاً أيّ خطأ ينطق به الممثلون ضمن أدوارهم، وكانت تشاركه فيه الممثلة المصرية شيرين. كان ممتعاً هذا المسلسل، تعليم اللغة العربية فيه غير مملّ، بل قدّم بطريقة تفاعلية مربوط بقصة أو موقف. ومن المواقف التي أتذكّرها أن الأستاذ ممنوع حين ذهب ليخطب، لم يدع خطأ من والد الفتاة لم يتدخّل لتصحيحه، حتى انتهت الخطوبة بالطرد. كان المسلسل يستحقّ أن نشقّ من أجله طريقاً طويلة من قلب القرية إلى أطرافها. وكنا نستعد لتلك الساعة، منذ أن نستيقظ من النوم. ويجب أن نكون هناك قبل وقت كافٍ من بدء المسلسل، ونجد آخرين قد سبقونا. لقد استطاع "الحلاو" بذلك أن يصنع حارته، ويجمع الناس من حوله، ولو على مسلسل يومي لا يستمرّ أكثر من ساعة. وإذا انتهى مسلسل الأستاذ ممنوع، فإنّه لا بد أن يكون ثمّة مسلسل آخر، يأتي بعد ذلك في "التلفزيون العُماني الملوّن" كما كان يسمى وقتئذ.
وبالعودة إلى حارة لوتس، يوجد كذلك بالقرب من المكتبة مقهى يقدّم الشاي الهندي المعروف بشاي الكرك. هناك كذلك يجتمع ثلة من الشباب يشربونه، ويتحادثون حتى وقت متأخر من الليل، ومنهم من يطلب وجبة سريعة، وغالباً خبزة عُمانية مصبوغة بالبيض أو العسل. وفي مكتبة لوتس، يمكن أن تكون العين ترمومتراً لقياس مستوى القراءة وطبيعة الجمهور الذي يأتي، ومعظمه من الشباب والشابات. ويكون السؤال غالباً إما عن رواية أو كتاب يُعنى بتطوير الذات. مرّة، جاءت شابة لشراء عدة كتب في تطوير الذات، وهي كتب عادة تحيي الأمل بالحياة والتغيير، وقد اقتنتها لكي تهديها لجمعية مرضى السرطان.
أصادف أحياناً صاحب البناية التي توجد فيها هذه الحارة، وهو نجل تاجر من السيب. شاب لطيف كثير الشبه بالمقرئ المصري الشيخ محمد محمود الطبلاوي في شبابه، فإذا كان هناك أربعون شبيهاً للطبلاوي، فإنّ صاحب البناية التي فيها مكتبة لوتس سيحتل الرقم الأول فيها، لكن عند حدود سن شباب الشيخ المقرئ فقط.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي