عن تأثير اللاجئين في شعبية أحزاب متطرّفة بألمانيا
جاء في كتاب "رأسمالية الكوارث: كيف تجني الحكومات والشركات العالمية أرباحًا طائلة من ويلات الحروب ومصائب البشرية"، لمؤلّفه أنتوني لوبنشتاين: "غالبا ما تندلع الحروب للسبب الرئيس ذاته، تحرير أسواق جديدة وطيّعة، ومع احتمال أن تستمرّ الحرب على الإرهاب عقودًا، لن يكون ثمة نقص في الأعمال التي يمكن تأمينها".
بات الاستثمار في الحروب حوضًا واسعًا، يحتوي شركاتٍ من مختلف الاختصاصات، عابرة للجنسيات. وكما كتب المؤلف في كتابه، هناك شركات مرتزقة تبرّر وجودها الدولة الأميركية، بأنها ضرورية من أجل محاربة الإرهاب، وهي مدمجة في حروب الولايات المتحدة في كل مكان، لكن الأمر لم يعد يقتصر على أميركا فقط، بل بات سمةً مشتركة لدول عديدةٍ داخلة في صراعات عالمية، في سعي محموم إلى تغيير القواعد وإعادة السيطرة على العالم. نعيش اليوم في خضم هذه الصراعات والحروب، حتى أن حركة التمرّد التي قام بها قائد مجموعة فاغنر الروسية جعلت العالم، بحكوماته وأجهزته الأمنية والاستخباراتية ومراكزه البحثية والاستراتيجية وغيرها، يقف في حالة استنفار لمتابعة الأمر واستشراف ما يمكن أن ينجم عنها، ولا يخفى عن المتابعين موضوع القلق والتخوّف في أوروبا من احتمال أن ينجم عن هذا الأمر، ووصول قائد المجموعة إلى بيلاروسيا بضمان رئيسها لوكاشنكو الذي تكفّل بالأمر، تسلّل إلى المجتمعات الأوروبية عن طريق بعض العصابات وتجّار الأسلحة والحروب، أو يتم تسخير مقاتلين من هذه المجموعة، وربما غيرها، في إحداث عملياتٍ تهزّ الأمن والسلم الأهليين في أوروبا التي تعاني أكثر من غيرها بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا.
لكن الحروب، التي تشكّل وحدَها أكبر مشكلات العصر وأكثرها قتلًا للحياة بكل أشكالها، وبكل الطرق، ليست وحدَها ما يسبّب القلق والخوف من المستقبل، بل هناك أيضًا مشكلة كبيرة، تكاد تكون على شراكةٍ مع الحروب، هي قضية التغيّرات المناخية واعتداء البشر الفاجر على البيئة. قلق وخوف يتفشّيان بين سكان الأرض جميعًا بسبب التغيّر المناخي والكوارث الناجمة عنه، والذي يعود أحد أسبابه الرئيسية إلى الانبعاثات الغازيّة العالمية. وهناك على مستوى العالم فريقان يتصارعان بشأن هذه النقطة، فريق يطالب ويعلي الصوت ويضغط على الحكومات من أجل اتخاذ التدابير قبل فوات الأوان، وآخر يدفع باتجاه الحفاظ على الوضع الراهن، تشكّله الشركات التي تجني الأرباح من الاستثمار في حقل الطاقة الحالية.
نلمس هذا القلق والخوف في ألمانيا، والمشكلتان تسبّبان انقسام الشارع الألماني حولهما، خصوصا بسبب تأثر حياة الألمان في السنوات الفائتة، أقلّه منذ عام كورونا، ثم الحرب الروسية الأوكرانية، وما نجم عنها من تأثر الشعب بغالبيته من ارتفاع الأسعار، ومن بعض الأزمات، خصوصا أزمة السكن، بعد ازدياد عدد اللاجئين بدخول حوالي مليوني أوكراني إلى ألمانيا.
بات الاستثمار في الحروب حوضاً واسعاً، يحتوي شركاتٍ من مختلف الاختصاصات، عابرة للجنسيات
في هذا الجو المتوتر، تزداد القاعدة الشعبية لبعض الأحزاب اليمينية المتطرّفة، ومنها حزب البديل من أجل ألمانيا، فقد فاز الحزب الشعبوي برئاسة أول بلدية في دائرة زونيبرغ بولاية تورينغن، شرقي ألمانيا، ولقد حذّر خبراء من حدوث "هزّات سياسية" في ضوء الطموحات الكبيرة للحزب الذي تخضع بعض الكيانات التابعة له لمراقبة الاستخبارات الألمانية بسبب التطرّف. وقد حصل "البديل ..." على دعم غير مشروط من معسكر النازيين الجدد، بالرغم من الفضائح العديدة التي طاولت عددا من قادته وسياسييه، مثل سوء إدارة التبرّعات الحزبية، ووجود صلاتٍ مؤكّدة مع متطرّفين يمينيين متشدّدين والتورّط في خطاب كراهية عنصري، كما جاء في تقرير نشره موقع دوتشه فيله.
لهذا الحزب قضيتان يُشهرهما في أولى اهتماماته وأجنداته المستقبلية: اللجوء وخطط حماية المناخ، ويعلن موقفه المناهض لهما، إذ ظلت إثارة مشاعر معادية للأجانب والمسلمين محور الحملات السياسية للحزب لسنوات. ويتزامن هذا مع قلق متنام يسود بين الألمان بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة والتضخّم. فشلت الحكومة الحالية بائتلافها الحاكم في تهدئة المخاوف، وهو الأمر الذي استغله حزب البديل من أجل ألمانيا، إذ تحولت الخلافات طويلة الأمد بشأن برنامج التخلص التدريجي من التسخين القائم على الوقود الأحفوري إلى "برنامج لتحفيز اليمينيين الشعبويين"، على حد وصف المحلل السياسي يوهانس هيلغي، كذلك الموقف من الحرب الأوكرانية، إذ تخرُج بعض المظاهرات والاحتجاجات بين حين وآخر، وتطالب الحكومة بتغيير سياستها تجاهها. لذلك، تزداد الحوادث العنصرية تجاه الأجانب في الفترة الأخيرة، جديدها أخيرا اعتداء مواطن ألماني على شاب سوري في محطة للقطارات، بتسديد سهم إليه أصابه في الظهر. كان المعتدي يلبس لباسًا عليه شعارات نازية. ألقي القبض عليه وأحيل إلى المحاكمة. وفي المقابل، أليست هذه القضايا التي تسبّب التوتر للشعب الألماني والقلق والخوف من المستقبل، وعلى المستقبل، إنسانية، من المفترض أن تهمّ البشرية مجتمعة؟ فأين، نحن المتحدرين من تلك الأوطان المصابة بلعنة الماضي والحاضر، فاقدة المستقبل، تحكُمها أنظمة فاسدة، وتستحيل دولها إلى دول فاشلة، وقد وصلنا إلى هذه البلدان التي أمّنت لنا الحدّ المقبول من ضمان الحياة واحترام إنسانيتنا؟ ألا ننتمي إلى الإنسانية، ونشترك مع فقراء وبؤساء ومعذبي الأرض بالمصير نفسه؟
أثارت أحداثٌ في مدينة إيسين الألمانية، بين سوريين ولبنانيين، شارك فيها مئات، ونجمت عنها إصابات، من بينها إصابة ضابط شرطة، الرأي العام الألماني
أثارت أحداثٌ وقعت منذ حوالي أسبوعين في مدينة إيسين الألمانية، بين سوريين ولبنانيين، شارك فيها المئات، ونجمت عنها مجموعة من الإصابات، من بينها إصابة ضابط شرطة، الرأي العام الألماني، وجدّدت خيبة الأمل لدى بعض المؤمنين بحقّ اللجوء، إذ قال نقيب شرطة الولاية الألمانية التي تتبع لها إيسين، ما معناه، موجهًا خطابه إلى السوريين، إن من المحزن كيف تشكلت قبائل أو عشائر سورية لارتكاب المخالفات، لأن السوريين جاؤوا هربًا من الحرب في بلادهم، وهذه الأحداث تنمّ عن تناقض واضح. ولهذا السبب، على كل من يرتكب المخالفات ترحيله بشكل حاسم وسريع، ولكن من يلتزم بالقوانين مرحّبٌ به. كلام عاقل ومنطقي.
في المقابل، طرح رأي يحمل في خطابه مدلولات مهمة، قدّمه معدّ قناةٍ على "يوتيوب"، معنية بجمع الأخبار وتقديمها للمتابعين، موجّهة، بشكل أساسي، إلى السوريين ثم العرب، وهي قناة ذات مصداقية مقبولة. نقل معد القناة خالد بوزان ما طلب منه فرد ألماني تابَعَ أحداث إيسين، وتابع تعليقات السوريين والعرب بشأنها، مفاده: بناءً على الأحداث والتعليقات الموجودة على الفيديو، لو كتبنا، نحن الألمان، هذه الأشياء وهذه المطالب لاتُّهمنا بالنازية، المطلب: قوموا بعمل مظاهرة، وأظهروا لنا أنكم معنا، حتى لا يحصد حزب "البديل ..." مزيدا من الأصوات، لقطع الطريق عليه وعدم استغلال اللاجئين هذه الممارسات، طالبوا بترحيل المرتكبين، طالبوا بترحيلهم في مظاهرة كبيرة، سوف تكون إشارة كبيرة قبل ترحيل الجميع. تتخوف الأحزاب الكبيرة من صعود الحزب، فطالما الأغلبية ضد هذه الممارسات، أظهروا تلك النيّة وتظاهروا.
الغالبية الكبرى من الشعب الألماني ضدّ الأحزاب العنصرية المتطرّفة. ولكن إذا بقي اللاجئون، أو المهاجرون، غير عابئين بمشكلات المجتمع المضيف، وهي مشكلاتٌ يعاني العالم من معظمها أيضًا، أو بقي بعضهم يمارس ارتكابات ومخالفات، وجرائم أحيانًا في هذا المجتمع، من دون أن يتفقوا على ترجمة موقفٍ مناهض، كما يدعون على وسائط التواصل، فسوف تزداد القاعدة الشعبية للأحزاب اليمينية، وتزداد فرص وصولها إلى مراكز صنع القرار، وبالتالي، سوف يخسر غالبية اللاجئين أو المهاجرين فرصهم في العيش في بلادٍ تؤمّن لهم ولأبنائهم فرصًا يحلمون بها في بلدانهم التي هربوا منها.