عن المتنطّعين: منتقدو معتزّ عزايزة نموذجاً
لطالما اعتبرَ الناس، للأسف، الصحافيين هدفاً سهلاً، في انتقادهم وانتقاد عملهم، وكذلك الحال من سلطات كثيرة، سياسية وعسكرية، ولعل من ارتقى منهم في حرب غزّة، أخيرا، شاهد على ذلك. رغم ذلك، يهرع الناس، والسلطات أحيانا، إلى الصحافيين طلبا "لمساعدتهم" إذا ما احتاجوهم يوما. وأسوأ ما في هذا الاستسهال في النقد والهجوم أن الصحافيين يُنتقدون لآراء ترد في إنتاجاتهم من تقارير وغيرها، مرئية كانت أم مسموعة أم مطبوعة، حتى لو كان وجود تلك الآراء من قبيل التوازن الأساسي لأي عمل صحافي. لكن كثيرا من ردود فعل الناس على ما يحدُث في قطاع غزّة، خارجه طبعا، فاق حدود التنطّع والمزايدة على أهل القطاع.
معتز عزايزة شابٌّ غزّي، بات من أشهر المصوّرين الصحافيين، وعبر حساباته الخاصة، من خلال توثيق المجازر في قطاع غزّة، وعرض الحال الإنسانية، بشكل فاق أداء مؤسّسات إعلامية كبيرة. لم يكن مهتمّا في التحوّل إلى صحافي، يغطّي الحروب، والمجازر، لكن واقع الحرب في غزّة فرض عليه هذا، وأبدع فيها حتى أن مؤسسات إعلامية اختارته شخصية العام (2023). لا أعرفه شخصيا، ولا هو بحاجة لمعرفتي، فحضوره منتشرٌ على وسائل التواصل الاجتماعي، بأكثر من سبعة عشر مليونا من المتابعين، ولكنه كان عرضةً (ولعل في الإطناب فائدة) للتنطّع والمزايدة، ما دفعني إلى كتابة هذا المقال، عن جوّ عامٍ بات يسود في مدن عربية، وليس في أي من مدن قطاع غزّة ونواحيه ومخيماته، حيث يدفع السكّان الثمن الأغلى والأفدح.
أجرى عزايزة لقاءين مع مواطن وسيدة غزّيين، بشكل منفصل، عبرا فيهما أن كثيرين من أمثالهما يرغبون في "السلام"، وأن الوضع في القطاع صعبٌ للغاية. لم يناسب هذا الكلام هوى متنطّعين كثيرين، فهو يغاير ما تضخّه أجهزة إعلام عربية كبرى لا تريد سماع سوى صوت واحد، يسيطر على المشهد في غزّة، والأسوأ أن هؤلاء يريدون لأهل غزّة أن يتكفّلوا بكل الكلفة البشرية، والتضحية، من دون أن يعبّروا عن أي موقف مغاير لما يروْنه هم.
ردود فعل كثيرين خارج قطاع غزّة بشأن ما يجري فيه فاقت حدود التنطّع
عمد هؤلاء إلى شنّ حملة انتقاد واسعة ضد معتز عزايزة، من دون أن يدركوا أن التوقيت حاليا لرفع بعض العبء عن الرجل وزملائه الصحافيين في القطاع بشكرهم، لا بانتقادهم. بكل بجاحة، كتب بعضهم "نحن من شهرناك (الصحيح أشهرناك)، ونستطيع عمل النقيض". فوقية وتعالٍ يعبّران عن إشكالية حقيقية، في مثل هذه المواقف، في أن كثيرين من هؤلاء المتنطّعين يعيدون الآن اكتشاف القضية الفلسطينية، وباتوا يشعرون أن هذا أعطاهم أفضلية مطلقة في تحديد الصواب والخطأ دون الجميع، بما فيهم أهل غزّة.
محاولات التحليل، أو تقديم رؤية، ترى في المجازر التي ارتُكبت بحقّ المدنيين في غزّة أكثر من مجرّد قربان للتحرير، كما يصفه متحمّسون كثيرون، تُواجَه بخطاب تعبوي، يرفض أي شيء "ليس في صالح المقاومة"، كما يرون هم. الصورة في غزّة ليست وردية، وهناك الكثير مما يُقال، رغم التكتيكات المتفوّقة لكتائب عز الدين القسام، وفصائل المقاومة الفلسطينية في هناك، ورغم الخسائر المتزايدة في صفوف جيش الاحتلال، إلا أن نصف غزّة بات محتلا، والكلفة البشرية عالية جدا، والحرب تشي بالاستمرار، وهناك همسٌ عن "تفهم" بعض الجهات الإقليمية مرحلة "ما بعد غزّة". هذه كلها عوامل لا يُطلب من الناس فهمها ولا قبولها، ولكن من المعيب أن يحدّدوا لأهل غزّة ماذا يريديون، وألا يرغبوا في الاستماع لهم. أجل في غزّة اختلافات وآراء وتباينات. ومقتضيات الواقع السياسي، والاجتماعي، أساسية لفهم ما يجري في القطاع، لكن تحميل هذا العبء كله لأهل غزّة أبعد ما يكون عن العدالة لأهلها.
مقتل أي قضية حق يكمن في إفراغها من مضمونها الإنساني، ولعل هذا لسانُ حال غزّيين كثيرين
ردّ عزايزة على منتقديه بشكل حازم، رافضا المزايدة عليه، بكلماتٍ مؤثرة، لكن واقعية: "يُعجبكم موتُنا وتتفاخرون بكثرة شهدائنا، يُعجبكم قهرنا وقلة حيلتنا وصمودنا، وتكرهون ضعفنا واعترافنا بأننا بشر، حتى أنك، يا عزيزي، لم تتكبد عناء مقاطعة منتجات القتلة إلا بعد أن قتل منا ما يزيد عن العشرين ألفا. ألم أقل لكم إننا لسنا محتوى لعين لتشاهدوه؟ بل قضية نحاول وحدنا أن لا نمحى عن الوجود وأنتم تنظرون وتنَظرون". بحثتُ في مطالبات المتظاهرين في عدة عواصم عربية، ولم أجد في واحدةٍ منها من تطالب بحقّ العمل للغزّيين في تلك الدول التي تمنعهم منها قوانين تلك الدول... يذكّر مثل هذا بعبارة للروائي اللبناني إلياس خوري، في واحدة من محاضراته، خلال وباء كورونا، حين قال: "أحبّوا الفلسطينيين ولا تحبّوا فلسطين"، فمقتل أي قضية حق يكمن في إفراغها من مضمونها الإنساني، ولعل هذا لسانُ حال غزّيين كثيرين.
نوّه أحد الذين انتقدوا عزايزة إلى افتراض عبثي بأن عز الدين القسام نفسه لو بعث من قبره، وطالب بـ "التعايش" "لاعتبرناه خائنا"...