عن التوتر المستجد بين حماس والنظام المصري
نشرت "العربي الجديد" الأربعاء الماضي تقريراً عن رفض مصر السماح لوفدٍ من قيادات حركة حماس في غزة بالسفر عبرها في جولة خارجية، تشمل قطر وتركيا وربما إيران. ما جاء في الصحيفة المصداقة يتلاءم مع ما على أرض الواقع، حيث جاء الرفض في سياق توتر متصاعد بين الجانبين، على خلفية استياء الحركة من عدم قيام الجانب المصري بدوره المفترض وسيطا مع إسرائيل، وعدم وفائه بوعوده فيما يتعلق بعملية إعادة الإعمار وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية في غزة، مقابل التزام الحركة وفصائل المقاومة بالتهدئة السائدة حالياً بناءً على تدخل الوسيط المصري وفق التفاهم الضمني ومعادلة الهدوء مقابل الهدوء الذي أوقف معركة سيف القدس في مايو/ أيار الماضي.
تتحدث "حماس" كذلك عن تشدّد القاهرة، حتى أكثر من تل أبيب نفسها، في ملفات إعادة الإعمار ورفع الحصار أو تخفيفه، وعدم التزامها بقضايا وملفات تتعلق بها مباشرة، مثل زيادة كمية الكهرباء المصرية الواردة إلى غزة، وإدخال مزيد من المواد الإنسانية الضرورية الغذائية والصحية والبترولية ومستلزمات البناء، إضافة إلى مواصلة التنكيل بالمسافرين الفلسطينيين عبر منفذ رفح والأراضي المصرية إلى الخارج، ومنع آلاف الغزّيين من السفر من دون أسباب واضحة. والخلاصة وفق "حماس" أن لا تغيير أو تحسن طرأ على حياة الناس، بشكل جدّي وملموس في غزة.
كتب صاحب هذه المقالة غير مرة في "العربي الجديد" عن الدور المصري المستجد في فلسطين، تحديداً منذ معركة سيف القدس منتصف مايو/ أيار الماضي، حيث استأنفت القاهرة وساطتها بين "حماس" وإسرائيل بعد توقفٍ شهورا. ولا بأس من التذكير بالأسس أو القواعد التي حكمت، وأسس الدور المصري، ولم تُحسن قيادة "حماس" في غزة قراءتها أو فعلت، ولكن تجاهلتها عن حسن نية وأمل في تخفيف الأوضاع الإنسانية الكارثية والمأساوية في غزة، والتي تفاقمت أكثر بعد المعركة الأخيرة.
تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في قطاع غزة، وحتى في الضفة الغربية، يأتي أساساً من أجل التهدئة ومنع الانفجار وإبقاء الأمل
جاءت الوساطة المصرية بطلب أميركي صريح ومعلن لوزير الخارجية، أنتوني بلينكن، في أثناء زيارته المنطقة في يونيو/ حزيران الماضي، وتنفيذاً لخريطة طريق أميركية أيضاً، بعدما قدّم النظام نفسه لواشنطن لاعبا ووسيطا مركزيا، يمكن الاعتماد عليه في فلسطين والمنطقة، وذلك في سياق التقرّب منها، وتقليص الأعباء الإقليمية عنها، مقابل تخفيف الضغوط السياسية والاقتصادية والإعلامية ضده في ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
تضمنت خريطة الطريق الأميركية التي عمل الوسيط المصري ولا يزال بموجبها ثلاثة أو أربعة بنود أساسية: تهدئة فورية في قطاع غزة وفتح المعابر لتقديم إغاثة إنسانية عاجلة للحفاظ عليها، واستئناف مشاريع إنسانية أممية أيضاً بدعم جهات عربية ودولية أوروبية تحديداً، ثم مفاوضات تبادل أسرى بين "حماس" وإسرائيل، بهدف الوصول إلى تهدئة طويلة الأمد، تتضمن رفع الحصار والشروع بعملية إعادة إعمار للقطاع لإيجاد أفق سياسي، يسمح، ولو على المدى البعيد، باستئناف مفاوضات التسوية بين السلطة وإسرائيل وفق حلّ الدولتين. والشاهد هنا أن تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في قطاع غزة، وحتى في الضفة الغربية، يأتي أساساً من أجل التهدئة ومنع الانفجار وإبقاء الأمل، ولو نظرياً، أمام استئناف محتمل لعملية التسوية والمفاوضات، ولو بعد حين.
مع الوقت، حصل تحديث لخريطة الطريق الأميركية، حيث قامت القاهرة بتحريك دعائي لملف المصالحة وإنهاء الانقسام الفلسطيني، ودائماً لتحقيق الأهداف نفسها، الحفاظ على التهدئة في غزة، ومنع الانفجار من جديد وتهيئة الظروف أمام تنفيذ البنود الأصلية للخريطة. تهدئة ثم مرحلة وسيطة – "ميني" إعادة الإعمار، ثم صفقة تبادل أسرى تكفل رفع الحصار نهائياً، وإعادة ربط غزة بالضفة الغربية والعالم.
مع استمرار التهدئة شهورا، تموضعت الوساطة المصرية أكثر تحت السقف الإسرائيلي، ودائماً ضمن الخطوط العامة المرسومة أميركياً
التزمت القاهرة بالرؤى والمحدّدات الأميركية - الإسرائيلية أيضاً، لجهة عدم تعويم "حماس" أو استفادتها من المساعدات الدولية، مع الاعتراف بثقلها وحضورها وسلطتها، حيث لا قرار إسرائيليا "ولا حتى مصريا" بإسقاطها أو إعادة احتلال غزة حفاظاً على الواقع الراهن فيها. ولكن مع استمرار التهدئة شهورا، تموضعت الوساطة المصرية أكثر تحت السقف الإسرائيلي، ودائماً ضمن الخطوط العامة المرسومة أميركياً.
بتفصيل أكثر، وإثر إنجاز المرحلة الأولية التمهيدية، أي التهدئة والإغاثات الإنسانية العاجلة، اصطدمت القاهرة بالتشدّد الإسرائيلي في ملف صفقة تبادل الأسرى، وإصرار تل أبيب على أن لا إعادة إعمار جدّية واسعة وضخمة لما خلفته الحرب، ولا للبنى التحتية والمنهارة في غزة على كل المستويات إلا بصفقة تبادل أسرى وفق الشروط التي تحدّدها تل أبيب غير المستعجلة أصلاً، نظراً إلى هشاشة الحكومة الحالية ولانعدام الضغط الشعبي والإعلامي، كما كان الحال مع صفقة جلعاد شاليت قبل عشر سنوات تقريباً.
أبدى النظام المصري انحيازه إلى وجهة النظر الإسرائيلية، على الرغم من اتفاقه مع "حماس" على إطار عام من مرحلتين للصفقة، ووافق عملياً على ربط إعادة الإعمار الجدّية بها، على الرغم من التفاوض بشكل منفصل بينهما، وفق قاعدة أن التفاوض عليهما يجري بشكل منفصل، ولكن لا تنفيذ إلا باتفاق شامل يدمج بينهما. وكان النظام المصري قد تذاكى مع نهاية الحرب، لتعميق حضوره في غزة، وبالتالي تسهيل تنفيذ خريطة الطريق الأميركية الإسرائيلية عبر عرض إعلامي شمل إرسال شاحنات وجرّافات مصرية ضخمة، واعتبار إزالة الأنقاض جزءا من إطلاق عملية إعادة الإعمار، بالتوازي مع الإعلان عن مشاريع مصرية بطيئة ومتعثرة لإعادة الإعمار تندرج أيضاً ضمن البروباغندا الدعائية والإعلامية نفسها. أما التنسيق المصري مع قطر والأمم المتحدة لتسهيل وصول المساعدات للموظفين والأسر المستورة فجاء أيضاً ضمن الحفاظ على التهدئة، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الحرب، من دون أن يعني ذلك الانخراط في إعادة الإعمار كما تفهمها "حماس" وتتصورها.
لا مناص من الانخراط بالمقاومة الشعبية في الضفة الغربية في ساحاتٍ متفق عليها وطنياً، من دون الاصطدام مع السلطة أو استفزازها وإحراجها
وتضمّن التذاكي المصري أيضاً إشغال الفصائل وخداعها بطلب تصورات ورؤى للمصالحة وإنهاء الانقسام، وهي ألاعيب وحيل لاستهلاك الوقت فقط. أما استضافة الفصائل والإعلان عن تشجيع حوار مع حركة فتح والسلطة تحديداً مع الجبهتين، الشعبية والديمقراطية، فيخدم الرئيس محمود عباس وأجندته، ويأتي أصلاً ضمن السياسة الإسرائيلية المصرية، لتقويته سياسياً واقتصادياً، وبالتأكيد بعيداً عن مصالحة جدّية ومستدامة.
عموماً، لا مفاجأة فيما وصل إليه الحال، وانتبهت إليه قادة "حماس" في غزة، لكن متأخرة للأسف، فالخيارات جدّ ضيقة ومحدودة أمامها. لذلك جاء التهديد بالتصعيد عامّاً وفضفاضاً. وتضمّن، كما قال مصدر قيادي في حركة حماس، العودة إلى التصعيد الشعبي، أي فعاليات مسيرة العودة، الإرباك الليلي والبالونات الحارقة، وكسر الحصار البحرى بالمقاومة والقوة المسلّحة، وهو أمر لم يتحقق خلال أربع حروب، وبالتأكيد لن يتحقق في الخامسة، بينما أنتجت مسيرة العودة تسوية معقولة أطاحتها معركة سيف القدس، والآن يراد العودة إليها.
من هنا، يبدو التهديد نفسه تعبيرا عن الأزمة والضائقة، ليس جزءا من الحلّ، وغزّة بالتأكيد غير مهيأة لتصعيد يزيد الأمور سوءاً مع حجم دمار كبير، وستعود بعده إلى النقطة نفسها التي وقفت عندها في الحروب السابقة، حيث قصص إغلاق المعابر ثم فتحها والتنقيط في التسهيلات، وعودة جهود الوسيط المصري، أي العودة إلى المشهد نفسه الذي نعيشه منذ عشر سنوات تقريباً.
في الأخير، وباختصار، تحتاج "حماس"، ونحتاج معها، إلى تفكير خارج الصندوق، بعيداً عن القاهرة ووساطتها، وفق الإيمان أن الحل الجذري لمشكلات غزة يمر حصراً بالمصالحة وإنهاء الانقسام، وهو حل فلسطيني أساساً، كما قال عن حق المسؤول في "حماس"، موسى أبو مرزوق، فقرار المصالحة فلسطيني داخلي مرتبط بالرئيس محمود عبّاس تحديداً. وعليه، لا مناص من الانخراط بالمقاومة الشعبية في الضفة الغربية في ساحاتٍ متفق عليها وطنياً، الشيخ جراح وبيتا، من دون الاصطدام مع السلطة أو استفزازها وإحراجها. وفي المقابل، الضغط الشعبي والفصائلي عليها لإجراء الانتخابات، أو تشكيل قيادة وطنية مؤقتة إلى حين إجرائها. وللأسف، لا تبدو الأجواء العربية والإقليمية "رغم التضحيات الفلسطينية" مؤاتية لذلك، مع طغيان الثورة المضادّة ودعوات التطبيع مع إسرائيل. والخلاصة أن الكرة كانت ولا تزال في الملعب الفلسطيني وسيبقى الحال على ما هو عليه إلى أن يأخذ الفلسطينيون زمام أمورهم بأنفسهم، من دون الاعتماد أو التعويل على وساطات خارجية بأجندات فئوية ومصلحية ضيقة.