عن التعليم في دول الخليج
بدايةً، يتعيّن القول إنّه بالمقارنة بين حال التعليم الراهنة في دول الخليج العربي وما كانت عليه قبل عقود، ثمّة انجازات كبيرة تحقّقت، بينها انخفاض نسبة الأمية إلى أضيق نطاق، بفضل شبكة المدارس الواسعة التي غطت كل مناطق هذه الدول، للذكور والإناث. وفي بلدان المنطقة عدد كبير من الجامعات المشهود لها بالكفاءة والجودة، ما أدّى، بالنتيجة، إلى زيادة أعداد خرّيجي الجامعات من الجنسين في مختلف التخصصات.
تنطبق على هذه الإشادة بما تحقق للتعليم من نجاحات إشادة بالنجاحات الأخرى التي تحقّقت في بلداننا، سواء على صعيد البنية التحتية المتطورة، وحجم الخدمات الاجتماعية المختلفة المقدّمة لأبناء المنطثة والمقيمن فيها، فهذه الإشادة يجب ألا تصرفنا عن رؤية السلبيات القائمة في غير مجال، بما فيها مجال التعليم، موضوع الحديث هنا، بل إنّ الجهات القائمة على العملية التربوية في بعض بلدان المنطقة أشارت، في أكثر من مناسبة، إلى ضرورة إصلاح النظم التعليمية، مع أنّ هذه الدعوات لم تقترن، في غالب الحالات، بخططٍ وبرامجٍ واستراتيجيات ملموسة لتنفيذها. لذا ليس غريباً أن ما تعاني منه منظومتنا التعليميّة من صعوبات تزداد بمرور الوقت، فالعبرة ليست في ما يُكتب على الورق، وإنما في الذي ينفّذ على الأرض، مع غياب قرار استراتيجي حاسم، يتصل برؤية الدولة ذاتها لهذه المسألة وعلاقتها بالرؤية التنموية على المستوى الوطني الشامل.
تحدّث مقالٌ سابق للكاتب (في "العربي الجديد") عن الحال البائسة لتدريس مادة الفلسفة في مقرّراتنا الدراسية، بسبب تسيّد رؤية قائمة على تلبية ما يوصف "حاجات السوق والمنافسة". ورؤيةٌ مثل هذه حين تكون هدفاً وحيداً للتعليم تصبح وسيلة لتخريج أجيال جديدة من عبدة الآلة، وليس أجيالاً من الراشدين، ذوي التكوين الثقافي العالي، الجامع بين العلم والثقافة والفكر، وهذا ما يذهب إليه تربوي أجنبي مرموق، هو إليغي ربول، الذي يرى أنّ ما يجب أن يدرّس هو ذاك الذي يحقق غايتين: التحرير والتوحيد. وإذا رجّحنا أنّ المقصود بالغاية الأولى تحرير الذهن من كوابح التفكير، فإنّ غاية التوحيد أن تحقق للدارس اندماجاً في مجتمعٍ يجب أن يتّسع لجميع أبنائه.
وإذا كان على التعليم أن يوحّد، فإن عليه أن يحرّر. ثمّة رابطة بين دراسة الأدب والفلسفة والتقنية وبين الرياضة البدنية والتربية الفنية ودراسة الموسيقى. الأولى تحرّر الأذهان، والثانية تحرّرنا من تصلبنا ومن تشنّج أعصابنا ورعونتنا. "المسرّة توجد بين الصرامة والمرونة" هكذا يوجز صاحبنا الأمر، ربما ليُرشدنا إلى أنّ التعليم منظومة متعدّدة الأوجه، لكنها مترابطة.
وكون إليغي ربول تحدّث عن تدريس الموسيقى جنباً إلى جنب مع المواد العلمية والتقنية، علينا ملاحظة أنّ هذه المادة أصبحت في حكم الممنوعة أو على الأقل المهمّشة في المدارس في كثير من بلداننا، لأنّ القائمين على هذه المدارس، لا بل وعلى منظومة التعليم إلى حدٍ بعيد، لا يروْن فقط أنّها مادة غير مهمة، وإنما جالبة لفساد الخلق وسوء التربية. حين نتحدّث عن ضرورة النهوض بالمنظومة التعليمية لا نعني أنّ على المدارس أن تدرّس الموسيقى، ووجوب ذلك. الموضوع أهمّ وأوسع من ذلك، وهو يتوقّف، كما أشير، إلى ضرورة وضع رؤية مستقرّة وثابتة للنهوض بهذا التعليم، وفق الأساس المشار إليه، لا تتغيّر بتغيير الوزير المُكلّف، كما يحدُث في بلداننا عادة، ولا يقلّ أهمية عن ذلك أن يعهد بملف التعليم لفريق تربوي وإداري مقتنع بهذه الرؤية، وساعٍ إلى تطبيقها بإخلاص.
ليست الرؤية المحافظة المتسيّدة على المنظومة التعليمية وحدها ما أضرّت وتضرّ بالتعليم ومخرجاته، وإنما أيضأ الرؤية المأخوذة بالبدعة الجديدة، حول عدم أهمية تدريس الأدب أو التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع وما إليها من مواد. بعض مدارس التربية الحالية، وهي تهاجم فكرة الحفظ التي درجت عليها المدرسة التقليدية بديلاً لتعويد التلميذ على الاستيعاب والتفكير، تكاد تخلط بين الحفظ والذاكرة، فتكون كمن يقطع الأصابع بحجّة تقليم الأظافر، حسب التعبير الجميل للشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف. ولن نجد أبلغ مما قاله التربوي المُستشهد به أعلاه، الذي لا يجد مدعاة للخجل في أن نعرف عن ظهر قلب التواريخ المهمة التي تشكّل معالم التاريخ، وأن نستعيد الأشعار الجميلة والأمثال والحكم، بل وحتى النصوص الفلسفية، "لأنّ مجتمعاً بغير ذاكرة لا هويّة له".