عن ازدياد بؤر الاحتجاج ضد نظام الأسد

21 اغسطس 2023
+ الخط -

تشهد مناطق عدة في سورية يسيطر عليها نظام الأسد، منذ مدّة، حراكاً احتجاجياً يُعبر عن نفسه بطرق متعدّدة، تختلف عن بعضها باختلاف قوة القبضة الأمنية والمليشياوية التي يُخضع بواسطتها هذا النظام تلك المناطق لسيطرته، لكنها، في المجمل، باتت تشكّل بؤراً احتجاجية يزداد انتشارها وتوسّعها، فالمحتجّون في محافظتي السويداء ودرعا نظّموا في أكثر من مناسبة وقفات احتجاجية، وتجرّأوا على الخروج إلى الساحات والشوارع في مظاهرات رافضة، وهتفوا من جديد "عاشت سورية ويسقط بشار الأسد... سورية لينا وما هي لبيت الأسد"، فيما يصعُب على محتجّي مناطق الساحل السوري الخروج علناً، وبشكل جماعي، على الرغم من تزايد نقمة أعداد متزايدة منهم على نظام الأسد الذي تمادى في تجويعهم، وإيصالهم إلى أوضاع كارثية، حتى باتوا يعيشون في واقعٍ لا يُحتمل، تتساوى فيه الحياة مع الموت، بل إن بعض السوريين يفضّل الموت على العيش تحت سيطرته. لذلك ليس غريباً أن يركب سوري مراكب الموت، مجازفاً بحياته في مياه البحر المتوسط.
لم يكفّ السوريون في الداخل، منذ سنوات عديدة، عن بحث ممكنات مواجهة النظام وسبلها، وعن تأسيس حركات احتجاجٍ سلمية، يركّز بعضها على القضايا المطلبية، والدعوة إلى الإضراب العام، مثل "تجمّع أحرار حوران"، و"الحراك السلمي السوري"، وحركة "الضباط العلويين الأحرار"، وحركة "10 آب"، فيما ترفع تجمّعات أخرى سقف مطالبها، وباتت لا تخفي مطالبتها برحيل نظام الأسد. وكان لافتاً أن يخرُج أخيراً محتجّون في حي جرمانا جنوبي دمشق، وذلك لأول مرة منذ اندلاع الثورة في عام 2011، فيما أصدر محتجّون في بلدة القريا بياناً لا يعترف بسلطة الأسد، لأنها "مغتصبَة من قبل المحتل الروسي والمليشيات الإيرانية، ويلزم إنهاء خدماتها فوراً، باعتبارها مجموعة من العملاء".

لا يتحمّل النظام أن تنضمّ بعض مناطق حاضنته إلى بؤر الحراك الأخرى، ولا حتى التقدّم بمطالب تخصّ تحسين أوضاعها المعيشية المتفاقمة

الواضح أن اتساع الاحتجاج وصل إلى المناطق الموالية للنظام وحاضنته الاجتماعية، لكن ناشطيه يعملون في الخفاء وبسرية تامة، خشية التنكيل بهم. وبالتالي، لم يرتق حراكهم بعد إلى حدّ تشكيل بؤرة فاعلة ومؤثرة. ولعل عملية التراكم المستمرّة كفيلة بذلك، حيث بدأت تتزايد أعداد أصوات أبناء الطائفة العلوية بالارتفاع في تلك المناطق، مجاهرة بتوجّعها من ممارساته، ومعترضة على سياساته القمعية. وشملت تلك الأصوات أفراداً كانوا من أشدّ المدافعين عن النظام، وفي عداد شبّيحته. والمرجّح أن يزداد عددهم، بالنظر إلى استمرار النظام وتماديه في التنصّل التام من مسؤولياته حيال أوضاعهم الكارثية، وفي اللامبالاة إزاء تجويعهم وإهانة كراماتهم، والتصرّف بكل صفاقة ووقاحة وصلتا إلى درجة مطالبتهم بمغادرة بلدهم، إن لم يكفّوا عن التذمّر والتبرّم من أفعال النظام وممارساته.
لا يتحمّل النظام أن تنضمّ بعض مناطق حاضنته إلى بؤر الحراك الأخرى، ولا حتى التقدّم بمطالب تخصّ تحسين أوضاعها المعيشية المتفاقمة، مثل رفع رواتب العاملين في القطاع العام وأجورهم، وعدم رفع الدعم عن المحروقات والمواد الأساسية، كالخبز والمواد الغذائية، فهو لا يريد أن يظهر بمظهر من يقدّم تنازلاتٍ تحت أي نوع من الضغوط الشعبية. لذلك لا يعير آذاناً صاغية حتى للمطالبات بتوفير الكهرباء والماء، بل يصرّ على الإمعان في سياساته الرامية إلى تحميل السوريين في مناطق سيطرته ثمن الأزمة البنيوية الشاملة التي يعيشها، عبر رفع أسعار الأدوية بنسبة كبيرة، ورفع سعر الخبز، وزيادة أسعار المحروقات. والأنكى أن ذلك كله ترافق مع إعلان النظام زيادة رواتب العاملين التي أراد نهبها قبل أن تصل إليهم، بل تدهور سعر صرف الليرة السورية كثيراً أمام العملات الأجنبية، بعد إجراء بشّار الأسد مقابلة مع قناة سكاي نيوز عربية.

يحاول النظام التقليل من حالة التذمّر السائدة، ومن ازدياد أعداد الأصوات المناهضة له، ولا يزال يعتقد أنه يسيطر على الأوضاع في كل المناطق

يشي ازدياد بؤر الحراك الاحتجاجي ضد نظام الأسد في مختلف مناطق سيطرته بأن انفجار الأوضاع فيها بات ممكناً، بالنظر إلى توفّر أسباب كثيرة قد تفضي إلى اشتعالها، خصوصاً مع ازدياد عدد الموالين له، الذين يطالبون بتغيير أحوالهم الحياتية والاقتصادية والاجتماعية. ومع تطوّر تلك المطالب إلى المستوى السياسي. ويتوقف تحوّل تلك البؤر، في مناطق جنوبي سورية والساحل السوري وريف دمشق وسواها، إلى حراكٍ فاعل على تطوير أساليب الاحتجاج وأدواته، واستثمار حالة الغضب العام في مختلف المناطق، خصوصاً في حال التآزر بين ناشطي البؤر وتنظيمهم فعاليات احتجاجية بما يروْنه مناسباً، من حيث المكان والزمان. إضافة إلى الإسناد والدعم الممكن أن يقدمه لهم ناشطون سوريون في مختلف بلدان الشتات والمهجر. ولا يتعلق الأمر بإصدار بياناتٍ وخطاباتٍ أو توجيه رسائل صوتية، فهي أدواتٌ قديمة لا تصلح للأوضاع الجديدة، بل يتعلق بإيجاد ممكناتٍ وطرقٍ جديدة، وبالافتراق عن محاولات ركب الأمواج التي تضر كثيراً، وبالابتعاد عن هيئات وتشكيلات المعارضة السورية، التي أثبتت فشلها الذريع في كل شيء يخصّ السوريين في الداخل والخارج.
يحاول النظام التقليل من حالة التذمّر السائدة، ومن ازدياد أعداد الأصوات المناهضة له، ولا يزال يعتقد أنه يسيطر على الأوضاع في كل المناطق. لذلك لا يكفّ عن الاعتماد على نهجه وعنجهيته، والتذرّع بأن الحرب لا تزال مستمرّة ضد أطراف المؤامرة الكونية، وأن حرباً وشيكة ستندلع مع الأميركيين في المنطقة الشرقية. إضافة إلى ازدياد وتيرة العمليات التي يقوم بها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فيها، والمريبة بتوقيتها، خصوصاً أن هذا التنظيم سبق أن استدعاه النظام في أكثر من مناسبة، واستغله في حربه ضد السوريين، مثلما استغلّه حلفاؤه الإيرانيون والروس.
لا أحد يمكنه التكهن بما ستؤول إليه الأوضاع في سورية على المدى القريب، فربما يتمكّن من تجميد بؤر الاحتجاج التي تجاوزت السويداء ودرعا، ووصلت إلى جبلة واللاذقية وحلب ومصياف وريف دمشق. وفي المقابل، عادة ما تفاجئ الهبّات الشعبية والانتفاضات والثورات الجميع، والثورة السورية التي اندلعت في عام 2011 خير دليل على ذلك، فقد خالفت حتى تقديرات أجهزة أمن النظام المتعدّدة، وأطاحت جميع الذرائع التي حاولت بناء خصوصية سورية حيال الإذعان للاستبداد.

5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".