عن اختبار تجريم التطبيع في دستور تونس الجديد
عجّت، أخيرا، وسائل الإعلام ووكالات الأنباء العالمية ومواقعها وصحفها الافتراضية والورقية بخبر انطلاق مناورات "الأسد الأفريقي 2022"، التي تنتظم بين القوات المسلحة المغربية والقيادة العسكرية الأميركية لأفريقيا (أفريكوم). يشارك فيها أكثر من 7500 جندي من عشرة بلدان، منها البرازيل وتشاد وفرنسا والمملكة المتحدة، بحضور مراقبين عسكريين من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومن 15 بلدا حليفا للولايات المتحدة من خارج الحلف، من بينها الكيان الصهيوني الذي يحضر للمرّة الأولى، وتونس التي ستحتضن جزءا من تلك المناورات حسب بلاغ "أفريكوم"، بعد الانتهاء من التدريبات الجارية جنوب المغرب الأقصى المتاخم للصحراء وحدود الجزائر. وأمام الجدل الذي أثارته المشاركة التونسية في مناوراتٍ عسكريةٍ يحضرها الكيان الصهيوني، أصدرت وزارة الدفاع الوطني في تونس بلاغا يوم 22 يونيو/ حزيران (الشهر الماضي)، جاء فيه "يهمّ وزارة الدفاع الوطني التذكير بأن القوات المسلّحة التونسية، وعلى غرار السنوات الفارطة، تحتضن تنظيم التمرين العسكري المشترك التونسي الأميركي (الأسد الأفريقي 2022) في جزء منه خلال الفترة من 16 جوان إلى غرّة جويلية 2022 بالتعاون مع القيادة الأميركية لأفريقيا، وبمشاركة عناصر من القوات المسلّحة التونسية ونظيرتها الأميركية دون سواهما، كما تشارك تونس بعنصر محدود بالمغرب".
بقطع النظر عن أهمية تلك المناورات بالنسبة للولايات المتحدة التي تسعى إلى ترسيخ وجودها في المنطقة، والحفاظ على دورها العسكري في ظلّ تنامي الوجود العسكري الروسي في ليبيا ومالي، والانحياز بوضوح إلى جانب المغرب في النزاع الجاري مع جبهة بوليساريو والجزائر بشأن الصحراء الغربية، خصوصا بعد تطبيع العلاقات بين المغرب و"إسرائيل" وفتح السفارات والقنصليات وتبادل السفراء، ما سيزيد من التوترات الإقليمية ويعمّق الخلافات المغاربية، فإن الرأي العام التونسي وقواه الإعلامية والاتصالية لم تنخرط في الحديث عن تلك المناورات من زاوية موقع تونس في المغرب العربي، الذي بقي أسيرا للخلافات السياسية بين المغرب والجزائر، والحيلولة دون الاقتراب من حلم اتحاد دول المغرب العربي الذي سيساعد على إيجاد سوق مغاربية وقوة اقتصادية إقليمية، وإنما غلبت قضية التطبيع مع الكيان الصهيوني كل تلك المناحي الاستراتيجية والبراغماتية، وكانت العنوان البارز للقضايا التي يجرى تناولها في مجالس السياسة ومنتدياتها ومناكفاتها.
تونس كانت دائما دولة مواجهة، بالرغم من عدم انتمائها لدول الطوق
وقد يكون هذا الجدل تتمةً لنقاشاتٍ عامةٍ سابقة اجتاحت الشارع التونسي ومواقع السوشيال - ميديا، علّقت على ما نشرته بعض الصحف ووسائل الإعلام المرئية الصهيونية من وجود محادثات سريّة بين تونس والكيان الصهيوني لإقامة علاقات دبلوماسية، تصدّت لها الجزائر، ونفتها وزارة الخارجية التونسية في بيانها يوم 8 يونيو/ حزيران، وأشار إليها من جديد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، يوم 22 يونيو/ حزيران، بالقول: "توجد لوبيات صهيونية تحاول محاصرة الجزائر بجرّ تونس نحو التطبيع بعد المغرب".
دوافع موضوعية ومبرّرات تاريخية تفسّر اهتمام التونسيين بالقضية الفلسطينية والعداء للصهيونية ورفض التطبيع مع كيانها، مغتصب أرض فلسطين ومشرّد الشعب وقاتل الأطفال والشيوخ والنساء ومدنّس المقدسات من جوامع ومساجد وأديرة وكنائس، من أهمها أن تونس كانت دائما دولة مواجهة، بالرغم من عدم انتمائها لدول الطوق. وتشهد على هذا الأمر مشاركة التونسيين في التصدّي لنكبة احتلال فلسطين سنة 1948، ودعم مصر ضد العدوان الثلاثي الفرنسي – البريطاني - الصهيوني سنة 1956، بالرغم من حداثة الاستقلال، وإرسال جنود في حربي 1967 و1973، وتدفّق المتطوعين بالنفس والدم والمال في أثناء غزو بيروت سنة 1982، واستقبال مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية في بنزرت استقبال الأبطال وإيوائهم في معسكر وادي الزرقة في الشمال التونسي في السنة نفسها، واختلاط الدم التونسي الفلسطيني إثر العدوان الصهيوني على حمّام الشط في ضاحية تونس الجنوبية، سنة 1985، الهادف إلى تصفية قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وزعيمها ياسر عرفات، واغتيال جهاز الموساد الصهيوني القائد الفلسطيني خليل الوزير أبو جهاد في سيدي بوسعيد على مرمى حجرٍ من قصر الرئاسة بقرطاج سنة 1988، واعتبار من نفذوا العملية "أبطالا قوميين إسرائيليين"، وتصفية المهندس الطيار محمد الزواري في مدينة صفاقس سنة 2016 بدم بارد، مع بثّ إحدى القنوات الصهيونية في اليوم نفسه مباشرة من قلب شارع الحبيب بورقيبة (شارع الثورة التونسية) وعلى بعد أمتار من وزارة الداخلية التونسية.
بعد إزاحة الثورة التونسية بن علي من الحكم سنة 2011، ارتفع في سماء السياسة التونسية عاليا شعار "الشعب يريد تحرير فلسطين"
بالتوازي مع الزخم الشعبي التونسي الذي استمرّ منذ مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين، والدور الذي لعبه الزعيم عبد العزيز الثعالبي في تنظيم مؤتمر القدس المساند للمقاومة الوطنية الفلسطينية وعدالة قضيتها، من دون تفريق بين الانتماءات السياسية والأيديولوجية، عرفت تونس توجّها رسميا تطبيعيا مع الكيان الصهيوني، تعود جذوره، حسب المؤرّخ التونسي عبد الجليل التميمي في دراسته "المسألة الفلسطينية وعلاقات الحبيب بورقيبة بالمؤتمر اليهودي العالمي" إلى سنة 1954، حين ربط بورقيبة، وهو في أوج قيادة الحركة الوطنية التونسية، علاقاتٍ متينة مع المؤتمر اليهودي العالمي، التنظيم الذي كان له كبير الأثر في نشأة الكيان الصهيوني، وقد ساعدت تلك العلاقة فيما بعد على تيسير هجرة اليهود التونسيين إلى أرض فلسطين، وعلى دعوة بورقيبة العرب إلى الاعتراف بدولة "إسرائيل" في خطابه الشهير في أريحا سنة 1965. وبالرغم من قناعة الرئيس بورقيبة بضرورة الاعتراف بالكيان الصهيوني ودولته "إسرائيل"، فإنه لم يتجرأ على التطبيع العلني وفتح تمثيليات قنصلية، واكتفى ببعض العلاقات السرّية المشار إليها في الوثائق الأرشيفية الصهيونية المنشورة تحت عنوان "العلاقات الإسرائيلية - التونسية 1968-1973"، إلى أن جاء خلفه زين العابدين بن علي، وفتح مكتب رعاية مصالح الجمهورية التونسية في تل أبيب، طبقا للأمر عدد 621 لسنة 1996 المنشور في جريدة الرائد الرسمي للبلاد التونسية، وذلك ضمن سياق أوسلو.
بعد إزاحة الثورة التونسية بن علي من الحكم سنة، 2011 ارتفع في سماء السياسة التونسية عاليا شعار "الشعب يريد تحرير فلسطين" من عموم الشعب المنتفض، وكانت المطالبة بتجريم التطبيع إحدى الترجمات الفعلية والعملية لذلك الشعار. قوبل هذا الخيار الشعبي بإسقاط حركة النهضة الإسلامية إدراج تجريم التطبيع بالدستور التونسي لسنة 2014، وتلا ذلك عرقلة مشروع القانون المناهض للتطبيع الذي تقدّمت به الجبهة الشعبية للبرلمان التونسي سنة 2015، والمصير نفسه ستلقاه المبادرة التشريعية التي تقدّمت بها الكتلة الديمقراطية سنة 2020.
خيّب قيس سعيّد الآمال، وأضاع فرصةً قد لا تتكرّر، ولم يغامر، كما كان الأمر متوقعا، بإدراج تجريم التطبيع في الدستور التونسي الجديد
يعتقد الجمهور الواسع المناهض للتطبيع والمناصر للقضية الفلسطينية في تونس أن الرئيس قيس سعيّد، الذي آلت إليه جميع السلطات بعد 25 يوليو/ تموز 2021، مطالبٌ بالوفاء لشعاره "التطبيع خيانة عظمى" الذي رفعه سنة 2019، وكان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية التي جرت في تلك السنة، وذلك بإدراج فصلٍ يجرّم التطبيع في دستور "الجمهورية الجديدة"، الذي سيستفتى فيه الناس يوم 25 الشهر الجاري (يوليو/ تموز)، إلا أن تصريحات كبير كتبة الدستور التونسي الجديد، الصادق بلعيد، في عدم جدوى دسترة تجريم التطبيع، لم تكن من البداية مشجعّة، خصوصا وأنها في تناسق وتطابق تبريري مع ما صرّح به عميد المحامين التونسيين الذي يترأس اللجنة الاقتصادية الاجتماعية يوم 21 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) أن تجريم التطبيع في الدستور يتضمن اعترافا بالكيان الصهيوني، بالرغم من توقيعه يوم 24 إبريل/ نيسان 2022 بيانا جاء فيه إن مجلس الهيئة الوطنية للمحامين "يذكّر بموقفه المبدئي من كل أشكال التطبيع مع العدو الصهيوني ويدعو السلطات القائمة إلى تجريم التطبيع بصفة قانونية وصريحة".
خيّب الرئيس قيس سعيّد الآمال، وأضاع فرصةً قد لا تتكرّر، ولم يغامر، كما كان الأمر متوقعا، بإدراج تجريم التطبيع في الدستور التونسي الجديد الصادر في الجريدة الرسمية التونسية يوم 30/6/ 2022، واكتفى بالإشارة في توطئة النص إلى "حق الشعب الفلسطيني في أرضه السليبة وإقامة دولته عليها بعد تحريرها وعاصمتها القدس الشريف". ولم يستجب لمطالب قوى عروبية ويسارية ونقابية تُسانده، للقطع مع مسار طويل من التغلغل الصهيوني في تونس اقتصاديا وفنيا وأكاديميا وسياسيا وأمنيا ودبلوماسيا، نما بعد يونيو/ حزيران 2011 بصفة لافتة، كما تثبته الأعمال الاستقصائية لموقع نواة حول التطبيع، وذلك بسبب ضعف الدولة التونسية واختراق مؤسساتها. إن هروب سعيّد من الإشارة الواضحة إلى الصهيونية وجرائمها وخطورة تغلغلها في تونس في نص الدستور سيُلحق برئيس الجمهورية التونسية ومناصريه الوصم التاريخي نفسه الذي لحق بالإسلام السياسي بسبب رفض التجريم. وسيكون شعار "التطبيع خيانة عظمى" مجرّد سلعةٍ رابحةٍ أعطت سعيّد موقعا متقدّما في سوق السياسة التونسية، في وقتٍ ينتشر فيه التطبيع في أغلب القطاعات من دون رقابةٍ وتصدٍّ، مع إعادة إنتاج المبرّرات نفسها التي استخدمتها حركة النهضة وحلفاؤها زمن كتابة دستور 2014 وسن القوانين، ولكن هذه المرّة من أنصار "الجمهورية السيادية الجديدة"، وحملة جمع ملايين الإمضاءات لسن التشريعات التي تجرّم التطبيع وتعاقب فاعليه.