عن إدارة التنافس الإقليمي بين تركيا وإيران
كان مقرّراً أن يزور وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، أنقرة في السادس من شهر يونيو/ حزيران الجاري، لكنّ الزيارة لم تحصل، ولم يصدر أي تعليق رسمي من البلدين بخصوص أسباب إلغائها أو تأجيلها. لكنّ وسائل إعلام إيرانية نقلت عن مسؤولين إيرانيين قولهم إن الزيارة تأجلت بسبب عدم التنسيق بين وزيري خارجية البلدين. في حين أن إلغاء زيارة من هذا النوع أو تأجيلها يُمكن أن يكون طبيعياً عندما تكون العلاقات بين البلدين طبيعية بالفعل، لكنّ الواقع لا يُشير إلى ذلك. كما أنّ التفسير الذي قدّمته وسائل إعلام إيرانية لسبب التأجيل لا يبدو مفهوماً، إذ من غير المنطقي عدم وجود تنسيق بين وزيري الخارجية بشأن زيارة مهمة من هذا النوع، في ظلّ كثرة القضايا الحسّاسة التي تتصدّر علاقات البلدين في الوقت الراهن، من الخلاف بشأن السدود إلى الوضع في سورية والعراق والتحولات الكبيرة التي يشهدها الوضع الإقليمي، والتي تؤثر مباشرة على العلاقات.
وكان عبد اللهيان قد انتقد الشهر الماضي (مايو/ أيار) بشدة بناء تركيا سدوداً على الأنهار الحدودية بين البلدين، في ظلّ تضاؤل الموارد المائية والتغيرات المناخية، وحمّلها مسؤولية العواصف الترابية التي تعرّضت لها إيران والعراق بسبب بناء السدود، الأمر الذي رفضته وزارة الخارجية التركية، واعتبرت أنّه "يفتقد لأي أساس علمي". في ظل أنّ الخلافات بشأن السدود والموارد المائية بين البلدين ليست جديدة، إلّا أن ظهورها مجدّداً في الوقت الذي تبرز فيها خلافات بشأن مسائل إقليمية عديدة يُعطي هذه الخلافات بُعداً أكبر. في الأسابيع القليلة الماضية، أعربت طهران عن معارضتها بشدة خطط تركيا شن عملية عسكرية جديدة ضد وحدات حماية الشعب (الكردية) في سورية. كما انتقدت مجدّداً العمليات العسكرية التركية أخيراً ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، بذريعة أنها تنتهك السيادة العراقية. كانت التوترات بين البلدين قد ظهرت إلى العلن بشكل أكبر في أعقاب الحرب الأذربيجانية الأرمينية في إقليم ناغورني قره باخ قبل عامين.
تركيا وإيران قوتان إقليميتان، تتنافسان، منذ فترة، على النفوذ في دول كثيرة مجاورة التي تعتبرانها حديقة خلفية لهما
رغم أن تركيا وإيران قوتان إقليميتان، تتنافسان، منذ فترة، على النفوذ في دول كثيرة مجاورة التي تعتبرانها حديقة خلفية لهما، إلاّ أن هذا التنافس ظل تحت السيطرة، ولم يتحوّل إلى أزمة في العلاقات. لكنّ الاندفاعة التركية الجديدة في الحرب على حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري الوحدات الكردية إلى جانب الانعطافة الإقليمية في علاقات تركيا أخيرا، أثارت تساؤلات بشأن مستقبل التعايش التركي الإيراني. أدّى انفتاح تركيا على السعودية والإمارات وإسرائيل إلى إثارة هواجس طهران من انخراط أنقرة في تكتل إقليمي جديد لمواجهة نفوذها في المنطقة. يعتقد الإيرانيون أنّ العلاقات الجديدة بين تركيا وكلّ من إسرائيل وخصومها الخليجيين سيحدّ من قدرتها الإقليمية. يُخطّط الخليجيون الآن إلى رفع مستوى العلاقات الجديدة الناشئة مع تركيا إلى تعاون دفاعي، وأبدت الإمارات رغبتها في شراء الأسلحة من تركيا. كما ورد أن السعودية ترغب باقتناء طائرات مسيّرة تركية لاستخدامها ضد الحوثيين في اليمن.
على صعيدٍ مواز، تنظر إيران بقلق عميق إلى عمل تركيا على إصلاح علاقاتها مع إسرائيل. في فبراير/ شباط الماضي، وبينما كانت أنقرة وتل أبيب قد بدأتا مفاوضات لإصلاح العلاقات، أحبطت وكالة المخابرات الوطنية التركية عملية إيرانية مزعومة لاغتيال رجل الأعمال الإسرائيلي التركي، يائير جيلير، في تركيا رداً على اغتيال العالم النووي الإيراني، محسن فخري زادة. وذكرت صحف إسرائيلية أن العملية الأمنية التركية جرت بالتنسيق مع الاستخبارات الإسرائيلية. كانت تركيا قد أعلنت، بالفعل، اعتقال شبكة تجسّس إيرانية مزعومة لاختطاف معارضين إيرانيين يعيشون على أراضيها. وعلى الرغم من أن اعتقال مثل هذه الشبكات أمر اعتيادي، إلاّ أن الإعلان التركي عنها يُفهم على أنّه مؤشّر على توتر في العلاقات. سبق لوزير الداخلية التركي أن اتهم إيران العام الماضي برعاية مقاتلين من حزب العمال الكردستاني على أراضيها، بعدما تبادل البلدان استدعاء السفراء على خلفية مطالبة السفير الإيراني في بغداد تركيا بسحب قواتها من العراق.
على مدى العقود الماضية، كانت العلاقات التركية الإيرانية مستقرّة على نحو مقبول، رغم هزّات تعرّضت لها، بين الفينة والأخرى
الخلافات وراء التنافس التركي الإيراني تشمل مناطق عديدة، ففي العراق، أدّى موقف إيران المعارض العمليات التركية ضد حزب العمال الكردستاني وتحالف مليشيات الحشد الشعبي مع التنظيم في سنجار إلى تأزيم العلاقات. أخيراً، تعرّضت قاعدة زليكان العسكرية التركية في مدينة الموصل لقصف صاروخي، ويُعتقد أنّ جماعات موالية لإيران وراء هذا القصف، بالنظر إلى وجودها بالقرب من القاعدة. لطالما كان شمال العراق ساحة صراع على النفوذ بين تركيا وإيران، على الرغم من أنّ الهاجس المشترك تجاه الجماعات الكردية المسلحة. لكنّ طهران لعبت على التناقضات في هذه المسألة، وبنت علاقات مع "العمال الكردستاني" لعرقلة تحرّك تركيا. وفي سورية، يقف البلدان على طرفي نقيض منذ اندلاع الصراع. وفي الوقت الراهن، تُهدّد خطط تركيا بشن هجوم جديد ضد الوحدات الكردية بمزيد من التوتر بينهما. علاوة على ذلك، قد تؤدّي مساعي إيران إلى زيادة تأثيرها في سورية مع التقارير عن تقليص روسيا وجودها العسكري للتركيز على حرب أوكرانيا إلى توتر إضافي مع تركيا. تعمل المليشيات المدعومة من إيران والنظام السوري على حشد قواتها في شمال غرب البلاد، لردع أي هجوم تركي جديد في المنطقة. ويبدو احتمال الصدام وارداً، حيث سبق أن انخرط الجانبان، بالفعل، في مواجهة دموية في إدلب قبل عامين.
على مدى العقود الماضية، كانت العلاقات التركية الإيرانية مستقرّة على نحو مقبول، رغم بعض الهزّات التي تعرّضت لها، بين الفينة والأخرى، بفعل انخراط البلدين في بعض صراعات المنطقة وتبنّيهما مواقف متناقضة إزاء الصراع الأذربيجاني الأرميني. لكن قدرة البلدين على مواصلة إدارة هذه العلاقات بشكل مستقر تتقلص بفعل التحولات الإقليمية، ورغبة كل من أنقرة وطهران باستغلال الفراغ الناجم عن تراجع الدور الأميركي في المنطقة لتعزيز دورهما الإقليمي، فضلا عن اتجاه أنقرة إلى بناء شراكات استراتيجية مع خصوم إقليميين لإيران، كإسرائيل ودول خليجية. بالنسبة لأنقرة، سعت إلى عزل التحوّلات في سياساتها الإقليمية عن العلاقة مع إيران. لكنّ الشراكات الجديدة التي تبنيها في الإقليم، تجعلها، في نهاية المطاف، طرفاً في تكتل إقليمي جديد يظهر وأحد أهدافه الرئيسية مواجهة النفوذ الإيراني. على غرار دول الإقليم الأخرى، تضرّرت تركيا بشدة من الدور الإقليمي الإيراني، ولديها هواجس كذلك من امتلاك دولة جارة لها سلاحاً نووياً.
الشكوك المتبادلة إلى جانب المشهد الإقليمي المتغير، يزيدان من الضغوط على أنقرة وطهران، للإبقاء على وتيرة الخلافات ضمن المستوى المعقول
رغم كلّ هذه الهواجس والتضارب في المصالح، سعت أنقرة، على مدى السنوات الماضية، إلى تبنّي نهج عقلاني في العلاقة مع طهران، بالنظر إلى الجغرافيا التي تفرض عليهما التعايش في ظل هذه التناقضات في السياسات والمصالح الإقليمية. عارضت تركيا على الدوام العقوبات الأميركية على إيران، وحذّرت من أنّ انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي، وندّدت باغتيال الولايات المتحدة قائد فيلق القدس السابق في الحرس الثوري، قاسم سليماني، في بغداد. كما تُبدي حالياً دعماً للمفاوضات الإيرانية الغربية لإعادة إحياء الاتفاق النووي. يبدو ذلك مفهوماً بالنظر إلى الروابط الاقتصادية العميقة التي تجمع تركيا مع إيران، ومخاوف أنقرة من أن يؤدي فشل المفاوضات إلى إطلاق سباق تسلح في المنطقة. لكنّ حقيقة أنّ لكلٍّ من تركيا وإيران مشروعين إقليميين متناقضين تجعل من مهمة إدارة التنافس بينهما عملية صعبة ومعقّدة، وتتطلب جهداً مشتركاً لإنجاحها. في الواقع، لدى قادة البلدين الرغبة في مواصلة ذلك، ولا يبدو أنّ هذه الرغبة ستتراجع، بالنظر إلى الحاجة إليها. مع ذلك، الشكوك المتبادلة في نظرة الطرفين لدورهما الإقليمي، إلى جانب المشهد الإقليمي المتغير، يزيدان من الضغوط على أنقرة وطهران، للإبقاء على وتيرة الخلافات بينهما ضمن المستوى المعقول.