عن "25 جويلية" والحاجة إلى إصلاح البرلمان التونسي
لا أحد يستطيع أن يكابر اليوم، ويغضّ بصره عمّا طرأ على البرلمان التونسي من تجميد، وتجريد نوابه من حصانةٍ ظنّ بعضهم أنها واقية لهم من كل نوائب الدهر، لمجرّد أنها انتبذت لها مكاناً قصياً في صفحات الدستور التونسي لسنة 2014، وذلك في إطار حزمة الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها الرئيس التونسي، قيس سعيّد يوم 25 جويلية (يوليو/ تموز) المنقضي. تمسّك نواب تونسيون كثيرون بالحصانة شكلاً، وأسقطوها عن أنفسهم أخلاقاً وقانوناً ومبادئ ووعوداً انتخابية منذ دخولهم في يومهم الأول البرلمان التونسي الذي أفرزته الانتخابات التشريعية سنة 2019. واعتقدوا أنهم ظل الله في الأرض، يمتلكون عصمة الأئمة وحلول المتصوّفة ونقاءهم الروحي، وأن لا أحد يستطيع مراقبتهم ومحاسبتهم وثنيهم عن غيّهم الذي هم بالغوه، فانحرفوا بالبرلمان عن وظائفه المقدّسة دستورياً، وحوّلوا قاعاته إلى دهاليز لحياكة المؤامرات على الشعب الذي انتخبهم وفوّض إليهم أمره، قبل أن تحبّر تلك المؤامرات نصوصاً تشريعية تُشتم منها رائحة مصالح اللوبيات وجماعات الفساد والإفساد في الأرض. وبدلاً من جعل الجلسة العامة للنقاش الحر العقلاني وإنتاج القيم السامية التي تستحيل قوانين بنّاءة، منتجة للحياة ومنظمة لها، وموفرة الحماية للمجتمع والدولة، تحوّلت قاعة الجلسات العامة إلى فضاء لإهانة الوزراء والحكومات، وترذيلهم أمام كاميرات التلفزات المحلية والعالمية، حتى باتوا يتحاشون الجلوس في حضرة برلمانٍ هو من منحهم الثقة ليكونوا وزراء وحكومات، ونصب المحاكمات لرئيس الجمهورية، والتفنن في المماحكات اللفظية، وانتقاء أبشع النعوت والصفات التي تستهدفه إساءة وتحقيراً، واستيلاء رئيس المجلس، راشد الغنوشي، على صلاحياته، وإلى حلبة للملاكمة والعراك والضرب والركل والعنف والسبّ والشتم والقذف والاعتصام العشوائي والاعتداء على الآخر الوطني، بكل ما تحمله تلك الكلمة من شحنة الاختلاف والتنوع والتعدّد والتعايش والتداول، والعدوان على الآخر الأجنبي في كل أصقاع الدنيا الذي تربطه بالتونسيين روابط الأخوة والهوية والدين وحقائق الإنسانية والتعاون بين الشعوب.
ولا يتسع هذا المقال لوضع تصنيف دقيق لما ارتكبه بعض البرلمانيين التونسيين من جرائم في حق ناخبيهم وشعبهم وتجاه أنفسهم سنتين، كتمجيد الإرهاب وتحقيق منافع شخصية وعقد صفقات فاسدة لأنفسهم وشركاتهم الخاصة والتحايل على الدولة والأفراد، ما استوجب صدور طلبات من القضاء لرفع الحصانة عنهم، أخفاها رئيس المجلس، حتى صار البرلمان التونسي، وهو في الأصل مفخرة الديمقراطية التونسية وأحزابها الوطنية، أضحوكة ومسخرة لدى عامة الناس، وقادتهم المحليين ولدى النخب الفكرية والسياسية والإعلامية والنقابية التي طاول جلّها عدوانية بعض النواب وأذاهم الذي أبى أن يتوقف، قبل أن تنقلب إلى عدوانيةٍ مضادّة وكُفر بهذا البرلمان، ورغبة شعبية جامحة في إيقاف عمله وحله، فقد تحوّلت المؤسسة التشريعية إلى كابوس مزعج للناس في أيامهم ولياليهم، و"أغلقت أمامه قلوب الناس، قبل أن تغلق بوابته مدرّعة عسكرية" على حد تعبير القيادي النهضوي، سمير ديلو، لموقع الصباح نيوز في 9/8/2021.
استبطن النهضويون، ومن والوهم، المقولة الستالينية، معتقدين أنّ البرلمان التونسي الذي يمثل مطبخ السياسة ومحورها قلعة محصنة لا تفتح إلا من الداخل، فإذا به أوهن من بيت العنكبوت
ولم يتمكن راشد الغنوشي الذي يتولى رئاسة المجلس التشريعي بحزب فاز بـ 20% من المقاعد، وبأغلبية هشّة براغماتية متهافتة ذات نزوع غنائمي، من حسن تسيير البرلمان، فقد أبدى انحيازاً حزبياً وأيديولوجياً بائناً حرمه لذّة الحياد الذي يستوجبه منصب قيادي وسيادي في الدولة، وتفرضه مقتضيات التعالي فوق الصراعات الحزبية، وميل الكتل البرلمانية نحو الانطواء والتصادم لتحقيق منفعة فئوية والعيش على وهم التعاطف الشعبي، وأظهر عجزاً في التسيير والإدارة، منه ما هو ناتج من انعدام تجربة الدولة لديه ومعرفة نواميسها واستبطان إكراهاتها، ومنه ما هو مرتبط بضعف القدرات الشخصية لشيخٍ دخل للتو عقده التاسع، من دون نسيان مقاربته في التمكين من مفاصل الدولة لأبناء التنظيم، بمن في ذلك من تعوزه مبادئ الكفاءة والنزاهة والمعرفة والمسؤولية والروح الوطنية، ما جعله عرضةً لسحب الثقة في أكثر من مناسبة.
ومن العبث بعد مرور أسبوعين على تفعيل رئيس الجمهورية قيس سعيّد الفصل الـ 80 من الدستور التونسي، المتعلق بالخطر الداهم، البقاء في مربع النقاش الأول والاكتفاء بنعت الإجراءات الاستثنائية بالانقلاب أو عدمه. ولكن من المهم جداً الاعتراف بأن واقعة يوم 25 جويلية، وحراكها الاحتجاجي الذي أدّى إلى الإجراءات المذكورة، كان سيقع يوم 26 أو يوم 27 أو بعد ذلك التاريخ، مهما كان لون فاعله، لو تأخر قيس سعيّد في اتخاذ قراره. ويبدو أنه استبق خطة نهضوية رشح أنها تحمل عنوان "فلسفة العزل" لإزاحته عن الحكم وعزله مطلع السنة البرلمانية المقبلة، فالخطر الداهم كان مؤكّداً، ومراكز القوة والنفوذ في الدولة كانت تتصيد اللحظة المناسبة لتبديل حال الدولة كل لمصلحته. ولقد أشار الكاتب، في مقاله في "العربي الجديد"، في 2021/6/27 بعنوان "الأزمة المالية ونزاع النفوذ في تونس" إلى أن التجربة الديمقراطية التونسية مهدّدة بالسقوط، وأن تونس في ظل عجز المالية العمومية ودرجة المديونية عالية المخاطر وبلوغ الدولة حافّة الإفلاس وانتشار رائحة الموت بسبب العجز عن توفير اللقاحات، قد تجد نفسها تحت الوصاية الدولية، أو بين فكّي كماشة "فإما انهيار الدولة أو عودة الاستبداد". وأورد مقالٌ ثانٍ نشره "العربي الجديد" يوم 2021/7/21، أن تونس تشهد "حركة احتجاجية – افتراضية حادّة وعامة من مختلف الشرائح الاجتماعية والنخبوية، ضدّ حركة النهضة، الإسلامية، بلغت حدّ الدعوة إلى اعتماد ذلك التاريخ موعداً للنزول إلى الشوارع، وإسقاط الحزب الإسلامي من الحكم، وتغيير النظام السياسي برمّته"، وهو ما حصل فعلاً يوم 25 جويلية (يوليو/ تموز).
يبقى البرلمان صمّام أمان مختلف الحريات الفردية والجماعية وتأسيس الأحزاب والجمعيات والنقابات والتداول السلمي على السلطة
تجاهلت حركة النهضة وحلفاؤها ذلك الاحتجاج الافتراضي - الشعبي الذي ترجمه أصحابه على أرض الواقع لاحقاً، وتجاهلت كل القراءات الاستشرافية لما ستعيشه تونس يوم 25 يوليو وما بعده، واكتفت بتأويلية تجريمية لما يحدث، على غرار السردية الاتهامية والمؤامراتية للرئيس الأسبق زين العابدين بن علي للثورة التونسية، منذ انطلاقتها الأولى في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 في مدينة سيدي بوزيد. فحركة النهضة هي من ورث النظام القديم وحزبه التجمّع الدستوري الديمقراطي، وأسلوبه في الحكم ومقاربته المجتمعية التي تنسج خيوطها نظرة أمنية بالدرجة الأولى. ولذلك عاشت تجربة "التجمّع الدستوري الديمقراطي" في حرق المقرّات، وربما يطاولها المنع النهائي إذا هي استمرّت بالوجوه القديمة والفكر المتآكل ونهم الغنيمة والمناصب وشبهة تنظيمها السرّي، ولم تصلح حالها جذرياً.
استبطن النهضويون، ومن والوهم، المقولة الستالينية العتيقة، معتقدين أنّ البرلمان التونسي الذي يمثل مطبخ السياسة ومحورها قلعة محصنة لا تفتح إلا من الداخل، فإذا به أوهن من بيت العنكبوت، حتى إنه لم يستطع الصمود دقائق أمام قرار أعلى هرم السلطة التنفيذية بتجميده. ولم تفلح صورة رئيس المجلس، راشد الغنوشي، أمام القضبان الحديدية وهو يتودد لأحد الجنود فتح الأبواب المغلّقة في كسب تعاطف قواعد حزب النهضة وعامة المواطنين للالتحاق به، وممارسة ما يستدعيه الحدث من اعتصاماتٍ وضغوط، وقد ترسّب الفساد في مختلف خلايا البرلمان ومؤسساته وتشريعاته، وسلوك بعض نوابه ممن فازوا بمقاعد بواسطة الغش الانتخابي، كما هو مثبت في التقرير العام لمحكمة المحاسبات عن نتائج مراقبة تمويل الحملات الانتخابية الرئاسية والتشريعية لسنة 2019 الصادر سنة 2020، الأمر الذي جعل من تلك الدعوة مجرّد صرخةٍ في واد سحيق.
كتب المفكر المغربي محمد عابد الجابري، في مؤلفه "في نقد الحاجة إلى الإصلاح" (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2005) "مفهوم الإصلاح في المرجعية الأوروبية يرتبط بتغيير الصورة، وإذا اعتبرنا الدولة صورة لمجموعة من السكان فإن الإصلاح في أي مجتمع يجب أن يتجه أولاً وقبل كل شي إلى الدولة". وعلى الرغم من اختلاف هذا المفهوم عمّا هو سائد في المرجعية العربية الإسلامية، حسب الجابري، الذي يربط "الإصلاح بالفساد في الشيء، والعودة إلى الحال التي كان عليها قبل طروء الفساد عليه"، فإن البرلمان التونسي يستوجب الإصلاح، بما هو مؤسسة للدولة وجب أن تكون صورة ومرآة عاكسة للهواجس الشعبية وإرادة الشعب، أو أغلبيته على الأقل، وبتطهيره مما طرأ عليه من تعفّن أخلاقي وانهيار سياسي وسقوط قيمي كان سبباً في التعجيل بتجميد نشاطه بالكامل، ووضع مقرّه تحت طائلة الحماية الأمنية والعسكرية.
دور النخب الوطنية مساعدة الرئيس سعيّد على البقاء في حدود الفصل الـ 80 والتزام الدستور
وسواء استقر الرأي لدى الرئيس قيس سعيّد، بإعادة البرلمان الحالي إلى دورة الحياة السياسية أو الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكّرة، فإن عودة المؤسسة التشريعية على حالها القديم وبالرئاسة الفاقدة الاستقلالية وشروط حسن التسيير وبالنواب أنفسهم الذين علقت ببعضهم شوائب سيرية وسوء السلوك واتهامات وقضايا وضعف في الشهادات العلمية والقدرات المعرفية والكفاءة السياسية، وبنظام داخلي أعرج لا يمكّن من تأمين عمل المجلس، هو ضرب من الخبال والعبث.
يحتاج البرلمان التونسي إلى وعي نوابه النزهاء بدوره المحوري في صناعة السياسة وحماية التجربة الديمقراطية الفتية من الانهيار، فهو نظرياً على الأقل صمام أمان مختلف الحريات الفردية والجماعية وتأسيس الأحزاب والجمعيات والنقابات والتداول السلمي على السلطة. وإن الدعوات إلى استبدال الدور البرلماني بالعودة إلى النظام الرئاسي وفق دستور 1959، أو غيره من الدساتير تنسى أو تتناسى أن الستين سنة التي تلت الاستقلال سنة 1956 لم تكن أقل مأساويةً من العشر سنوات الأخيرة، كما هو مدوّن في كتاب توفيق المديني عن المعارضة التونسية، وفي تقرير اللجنة التي ترأسها عبد الفتاح عمر عن الفساد والرشوة في تونس، وأن دور النخب الوطنية هو مساعدة الرئيس سعيّد على البقاء في حدود الفصل الثمانين والتزام الدستور وإنهاء الحالة الاستثنائية في آجالها المحدّدة بعد تطهير الحياة السياسية التونسية التي طمرتها آثام السياسة ولوّثتها مستنقعات المال والإعلام الفاسدين.