عن "الاتحاد الاشتراكي" الذي كان
لم يعد حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، المغربي، يصنع الحدث في المغرب. نهاية الأسبوع الماضي، أنهى أقدم حزب يساري معارض في المغرب مؤتمره الحادي عشر من دون أن يلفت إليه كثيرا من الاهتمام، باستثناء تعليقات ساخرة من رواد مواقع التواصل في المغرب على تولي رئيس الحزب، إدريس لشكر، ولاية ثالثة، بعدما استنفد ولايتين قانونيتين، كان ينص عليهما القانون الداخلي للحزب، لكن زعيمه الذي استطاب كرسي الرئاسة قام بتغيير القانون خلال أشغال المؤتمر ليعاد انتخابه مرة ثالثة، وربما رابعة مستقبلا. وكانت هذه أهم نقطة في جدول أعمال المؤتمر الذي استمر ثلاثة أيام، بدأت بتعديل قانون الحزب وانتهت بمبايعة زعيمه، ليستمر في مكانه أربع سنوات أخرى أو أكثر، إذا لم يخرج من أتباع الزعيم الحالي من ينقلب عليه، كما انقلب هو على زعمائه من قبل، فما وقع كان أشبه بالمبايعة، بما أن منافسي زعيم الحزب انسحبوا في آخر لحظة لأسباب غالبا شخصية وغامضة، والمرشّحان الأكثر جدّية تم إقصاؤهما لأسباب تنظيمية "محضة"، لفسح الطريق أمام "انتخاب" رئيس الحزب بأغلبية مطلقة كاسحة.
ما حدث في المؤتمر الحادي عشر للحزب الذي قاد المعارضة اليسارية في المغرب منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي وحتى نهاية تسعينياته، لم يحمل أي جديد، فهذا الحزب مات سريريا منذ وفاة زعيمه التاريخي عبد الرحيم بوعبيد عام 1992. وطوال السنوات الماضية، ظل يعيش على ماضيه من دون عرض سياسي جذّاب ومن دون زعامة كاريزمية حقيقية، مخاتلاً ما بين المعارضة والمهادنة، خصوصا في فترة زعيمه الراحل عبد الرحمن اليوسفي، الذي كان زعيماً غامضاً، منعزلاً، قليل الكلام، منقطعاً عن قاعدة الحزب وجماهيره. وأدّت مشاركات الحزب، الباهتة، في الحكومات المتعاقبة منذ 1997 وحتى 2020، إلى استنفاد كلّ ما راكمه طوال مسيرته من رصيد الثقة والمصداقية لدى أتباعه، وأجهزت الصراعات السياسية الشخصية بين ما تبقى من قياداته التاريخية على كل أمل في إعادة إحياء فكرة الحزب الجماهيري الذي تحوّل إلى وكالة انتخابية محضة تنشط موسميا فترة كلّ استحقاق انتخابي. وجاء مؤتمر الحزب أخيراً ليكرّس تحوّله إلى رقم عادي داخل المعادلة السياسية المغربية، لا يختلف عن الأحزاب التي كانت تصفها أدبيات الحزب في الماضي بأنّها "إدارية" لارتباط قراراتها بوزارة الداخلية.
واقع حزب الاتحاد الاشتراكي الذي كان يعدّ قائد الصف اليساري في المغرب يختزل أزمة اليسار المغربي الذي أصبح فاقداً أيّ تأثير سياسي وأيديولوجي داخل المجتمع
لم يعد لهذا الحزب ما يزايد به على بقية الأحزاب في المغرب، وأبعد من ذلك ليس لديه ما يحسدونه عليه، فخلال العقدين الماضيين فتح أبوابه أمام محترفي الانتخابات وسماسرة العمل السياسي، وأدّى ابتعاد آخر المناضلين المخلصين عن صفوفه، يائسين أو محبطين أو مطرودين، إلى تحوله إلى قوقعة فارغة يعوي داخلها خواء متعب. وتحولت مؤتمراته إلى مهرجانات فلكلورية باهتة لإعادة مبايعة الزعيم الذي ينجح في إقصاء خصومه، بشراء ولائهم أو إخراس أصواتهم في الهزيع الأخير من الليلة ما قبل حفل الافتتاح. هكذا مرّ مؤتمر الحزب نهاية الأسبوع الماضي، ولم يحمل معه أي جديد سوى تعميق الاعتقاد في اليأس، لمن ما زالت في نفسه ذرّة شك، من كل محاولات إعادة إخراج الحزب من موته السريري الطويل. فإذا كان الحزب لم يفلح في إعادة بناء بيته الداخلي، وإعادة صياغة خطابه بما يتلاءم مع مراحل تحوّله عندما قاد حكومته نهاية الألفية الماضية، وشارك في الحكومات المتعاقبة طيلة العقدين الماضيين، فكيف يتأتى له ذلك، اليوم، بعد أن أُبعد، بطريقة مهينة، عن المشاركة في الحكومة الحالية ليجد نفسه، مجبَراً لا بطلاً، على دكّة معارضة باهتة بلا أفق ولا برنامج؟!
واقع حزب "الاتحاد الاشتراكي" الذي كان يعدّ قائد الصف اليساري في المغرب يختزل أزمة اليسار المغربي الذي أصبح فاقداً أيّ تأثير سياسي وأيديولوجي داخل المجتمع. واقع يطبعه التشظّي والانقسام وحالة من الجمود تضع مستقبل الفكر اليساري في المغرب على المحكّ بعد عقود من الخيبة والفشل والهزائم لأحزابه، سواء في المعارضة أو داخل الحكومات على حد سواء. وهو ما يدفع إلى الاعتقاد القوي بأنّ التيارات اليسارية في المغرب لم يكن لها مشروع سياسي سوى المعارضة التي ساهم القمع البشع في "سنوات الرصاص" الذي قابلته بها السلطة في تعاطف شرائح واسعة من الشعب معها، وعندما أصبحت بعض هذه الأحزاب اليسارية تقود الحكومة أو تشارك فيها، وساهمت بدورها عندما تأتّت لها السلطة في ممارسة قسطها من القمع الذي عانت منه في الماضي، فقدت تعاطف أتباعها والمتعاطفين معها.
لم يعد للحزب ما يزايد به على بقية الأحزاب في المغرب، وليس لديه ما يحسدونه عليه
نقطة الضوء الوحيدة في مؤتمر حزب "الاتحاد الاشتراكي" أنّه أفسح المجال أمام هذه التجربة المنهكة حتى تستنفد كلّ محاولاتها الفاشلة في إعادة بناء نفسها بنفسها، وأنهى كل بارقة أمل في إعادة النفخ في قربة مخرومة. أما الفكرة اليسارية التي تدافع عن الحرية والحقوق والمساواة والعدالة والاجتماعية فستظل قائمة حية لا تفنى، ما دام على هذه الأرض ظلم وتعسّف وقمع. الواقع الذي هيأ لـ "الاتحاد الاشتراكي" في سبعينيات القرن الماضي أن يتحوّل إلى تيار مجتمعي جارف قادر على أن يعيد التجربة مع تيارات يسارية تخرج من صلب المجتمع، وربما تجد في شروط واقع اليوم ما يجعلها أكثر صلابةً وقوةً في الدفاع عن فكرها لإقناع الناس به وتعبئتهم حوله.